الحرب الإسرائيلية على غزة وسكانها العزل، فضحت الكثير من مواقف الإعلام والإعلاميين في بعض الدول العربية، وأظهرت هذه الحرب الهمجية بوضوح أن لهذا الإعلام أوجها عديدة، ومواقف متلونة تتشكل حسب مصالح المؤسسة الإعلامية نفسها، ومصالح القائمين عليها، أو مصالح الحكومات والأنظمة التي تعبر عنها تلك المؤسسات الإعلامية.
أكدت الحرب أن الكثير من المؤسسات الصحفية لا تزال تخضع لإملاءت وقرارات وأجندات أو حتى أجهزة مخابرات لا تسمح لها إلا بتناول المواضيع التي تحقق أهداف ورؤى محددة بعيداً عن الدور المفروض على الصحافة الحرة النزيهة المهنية، التي تمارس دور السلطة الرابعة في كل المجتمعات.
لا يختلف اثنان في أن حركة "حماس" تتحمل الجزء الأكبر فيما يحدث للشعب الفلسطيني في غزة، ليس في هذه الحرب فقط، وإنما كذلك ظلت ـ على الدوام ـ سبباً في كل الحروب الأخيرة التي واجهها أهل غزة وما زالوا يواجهونها، وتعاني منها غزة وأهلها سياسياً واقتصادياً، فـ"حماس" ـ دائماً ـ تتخذ قرار الحرب وحدها في ظل مساع جادة لرأب الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني وتقوية الجبهة الداخلية، ومن ثم الحوار مع إسرائيل وفق أجندة وملفات يتفق عليها الفلسطنيون جميعاً، إضافة الى أن "حماس" تعي جيداً من خلال التجارب السابقة أنها غير قادرة على حماية الفلسطنيين في غزة، وأن المدنيين من الشعب الفلسطيني هم من سيدفع الثمن، وهم الخاسر الأكبر من هكذا حرب، تندلع في ظل جبهة داخلية هشة وحماية دولية ضعيفة أو معدومة بسبب ضعف الأداء السياسي لـ"حماس" والحكومة الفلسطينية. لكن ما يحدث الآن يتجاوز حركة "حماس" ومواقفها إلى شعب يحصده الرصاص الإسرائيلي يومياً دون تمييز بين كبير أو صغير، رجل أو امراة، حمساوي أو فتحاوي. شعب أعزل يواجه يومياً آلة القتل الإسرائيلية التي حصدت حتى الآن أكثر من 400 فلسطيني في غزة معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ. ولكن رغم ذلك نجد تركيز بعض الإعلام العربي الخاص على أخطاء "حماس" في هذه الحرب، ومحاولة تصفية مواقف وخلافات دون الاهتمام بما تخلفه الحرب من ضحايا ومآس هي زلة إعلامية لا علاقة لها بالمهنية والحرفية وحتى الحيادية المعروفة في الإعلام.
بعض المتطرفين من الإعلاميين الذين فتحوا قنوات بأموالهم وتربعوا في الأستديوهات ينظرون ويشتمون ويردحون وقفوا للأسف موقف المناصر للجيش الإسرائيلي مطالبين إياه بالقضاء على "حماس"، ومواصلة الحرب حتى تحرير غزة من قبضة حماس! حتى إن صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية ابتهجت وأبرزت التصريحات المؤيدة لإسرائيل في بعض قنوات الإعلام ووصفتها بأنها لم تسمع من أجيال من قبل، واحتفت بتصريحات مالك إحدى القنوات المصرية الذي حيا فيها قيادات الجيش الإسرائيلي، مطالباً إياها بالقضاء على حماس، وفي تقرير داخلي آخر في نفس الصحيفة أشار الكاتب إلى أن "إعلاميين عربا مشهورين يفضلون إسرائيل على حماس"، ليس ذلك فحسب بل إن بعض الإعلاميين العرب اعتذروا لعدم قدرتهم على مساندة أهل غزة؛ إذ كتب أحدهم قائلاً: "آسف يا أهل غزة، لا أستطيع أن أساندكم حتى تخلصوا أنفسكم من حماس"، وبعضهم هنأ وشكر الإسرائيليين على قتلهم وحصارهم لأهل غزة كما في إحدى التغريدات على موقع "تويتر" الإلكتروني "شكرا نتنياهو، ليعطينا الله المزيد من أمثالك ليقضي على حماس".
الغريب في الأمر أن أغلب الإعلام الغربي الذي كان يتهمه العربي بأنه ـ دائماً ـ يساند إسرائيل مساندة عمياء ويتبنى مواقفه، اهتم بالوضع المأساوي الذي تعيشه غزة، مطالباً بوقف إطلاق النار وفتح ممرات لإيصال الإغاثة وتوزيعها، بينما انشغل الإعلام العربي بتجريم "حماس"، والتشكيك في بعض جهود الإغاثة التي تقدمها بعض الدول العربية.
واقع الإعلام في بعض المؤسسات العربية يحتاج إلى إعادة التوازن، والتزام المهنية، واستيعاب دور الإعلام كسلطة رابعة. نعم الجرأة والشفافية في تناول القضايا مطلوبان، وكذلك كشف الأخطاء وفضح الممارسات السالبة أياً كانت الجهة أو المسؤول، لكن أن يتبنى الإعلام بشكل فاضح مواقف دولة تواجه شعباً عربياً أعزل بالرصاص والقتل العشوائي، ويأتي على حساب الكثير من الثوابت والمسلمات التي يجب أن تتوافر في أي مؤسسة إعلامية، أمر يصعب تصديقه أو تفهمه؛ لأن الضحايا هم نساؤنا وأطفالنا وشيوخنا في فلسطين المحتلة.
أختم كلماتي بأبيات من قصيدة للشاعر العشماوي عن غزة:
يجور القصف ..يرتفع الدخان
وأمتنا على ملأ تُهانُ
رأينا غزة الأبطال لما
أغار على معاقلها الجبانُ
مئات الأبرياء بغير ذنبٍ
تَضرَّج من دمائهم المكان