مشهد فرح واحتفاء غريب ومهيب، عاشه المحاصرون في قطاع غزة، في نهاية اليوم الرابع عشر للعدوان، ويشاركهم في ذلك الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، والأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948. والمناسبة، هي الإعلان عن تمكن كتائب القسام من أسر أحد جنود الاحتلال الصهيوني، وإعلان الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال، عن مصرع ثمانية عشر من جنوده.

في اليوم نفسه أيضا، استشهد مائة فلسطيني، في مجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال في منطقة الشجاعية، في الشمال الغربي من القطاع، ليتجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين، جراء العدوان إلى أكثر من 450 شهيدا. لكن إرادة المقاومين الفلسطينيين، بقيت عصية على الانكسار. ورغم الخراب والدمار، وإجبار أكثر من خمسين ألفا من السكان على مغادرة منازلهم، بقي الغزاويون متمسكون بحقهم في المقاومة، ومثلوا الحصن الواقي لمقاومتهم الباسلة.

على الطرف الآخر، تغير موقف المستوطنين "الإسرائيليين"، وما يدعى بـ"الشعب "الإسرائيلي"، تجاه العدوان. فما حسبوه نزهة قصيرة خالية من الكلف، بناء على تجربتي حربي غزة السابقتين، تكشف أنه ليس كذلك. فلقد تعلم الفلسطينيون الدرس. أدركوا أنهم بين خيار تلقي ضربات المحتل في دورات متعاقبة ليس لها نهاية دون مقاومة، وبين الاستعداد للمقاومة وتلقين العدو دروسا لن ينساها.

صحيح أن لا أحد يتوقع، أن يلحق الغزاويون بالعدو الصهيوني هزيمة ماحقة. فجيشه أعد من حيث العدة ليهزم الجيوش العربية مجتمعة، وقد فعل ذلك بالسابق في ظل ظروف مغايرة. لكن ذلك لا يغير من القانون الطبيعي الذي أثبته التاريخ مرات ومرات وشيئا فشيئا. فكل حركات التحرر الوطني في العالم التي انتصرت على المحتل، واجهت جيوشا متفوقة عليها في العدد والعدة، ومع ذلك تمكنت من انتزاع استقلالها السياسي وحققت نصرا ساحقا على المستعمر.

النصر الساحق في حروب التحرير ليس بالضرورة أن يكون نصرا عسكريا، فمثل ذلك لم يكن متاحا، للشعوب التي ترفع راية الكفاح من أجل نيل الحرية والاستقلال. إنها الهزائم السياسية التي تجبر العدو على التسليم للشعب المستعمر بحق تقرير المصير.

مقاربة الخسائر التي قدمها الجزائريون في كفاحهم ضد الاستعمار الفرنسي، والتي تجاوزت المليون شهيد، بتلك التي فقدها المحتل، توضح أن ما قدمه الفرنسيون من الخسائر البشرية لا يعادل 10% مما قدمه الجزائريون، ورغم ذلك انتصر الجزائريون. والسبب يعود إلى السكان الأصليين الذين كانوا يدافعون عن وجودهم، في الوقت الذي يقاتل فيه المحتل تكريسا للهيمنة والسطو ومصادرة الحقوق. وتلك أسباب لا تستوجب المكابرة والمضي في تقديم الخسائر والقتلى.

الفلسطينيون في هذا السياق يدافعون عن وجودهم، بينما يقاتل جيش الاحتلال الصهيوني من أجل تأكيد هيمنته وسطوته. وقد جرت العادة أن السكان في مركز دولة الاحتلال لا يمانعون في الاستعمار والاحتلال والسطو، شريطة أن يكون ذلك دون كلف. أما حين يدركون أن ثمن ذلك سيكون أرواح أبنائهم ومستقبلهم، فعند ذلك تنشط الحركات المناوئة للحرب، وتفرض على السياسيين والقادة تغيير سياساتهم.

حدث ذلك بجلاء، أثناء حرب الاستقلال في الجزائر، وأثناء الحرب الفيتنامية، حيث شارك أكثر من نصف مليون جندي أميركي في تلك الحرب، وانتشرت شرارتها لاحقا، لتعم كمبوديا ولاوس. وكانت الخسائر الأميركية في تلك الحرب تتجاوز الخمسين ألفا، لقد تحرك الشارع الأميركي بقوة ضد سياسات الرئيس الأميركي "لبندون جونسون"، التي تسببت في إغراق الجيش الأميركي في الوحل الفيتنامي.

ترشح الرئيس ريتشارد نيكسون، للانتخابات الرئاسية، وفي أعلى قائمة برنامجه الانتخابي الانسحاب من فيتنام، وكان ذلك هو العامل الذي رجح فوزه بالانتخابات. وبالمثل، قطع شارل ديجول أثناء حملته الانتخابية للوصول إلى قصر الإليزيه وعدا للفرنسيين بالانسحاب من الجزائر، بعد أن شهد الفرنسيون حجم الخسائر البشرية التي تعرضت لها بلادهم في تلك الحرب. وكان ذلك هو ما تحقق بالفعل.

في الحالتين، لم يكن النصر الذي تحقق عسكريا محضا، بل كان انتصارا سياسيا. والفارق بين النصر السياسي والعسكري كبير جدا. فليس شرطا أن تؤدي الهزيمة العسكرية إلى هزيمة سياسية. فقد قرر العرب في مؤتمر قمة الخرطوم التي عقدت بعد النكسة لاءات ثلاثة: لا تفاوض ولا صلح ولا استسلام. حدث ذلك رغم أن جيوش دول عربية ثلاثة: مصر وسورية والأردن، فشلت في القتال، وتضاعف الكيان الصهيوني عدة مرات، لكن العرب لم يرفعوا الراية البيضاء.

في أكتوبر عام 1973، نجح السلاح، وفشلت السياسة. تمكن العرب على الجبهتين المصرية والسورية، من تحقيق نجاحات باهرة، ودحضوا أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ولكن نتائج الحرب شكلت انتقالا استراتيجيا نحو التسوية السلمية، التي استمرت منذ تلك الحقبة حتى يومنا هذا. وخلالها لم تتغير صورة المشهد "الإسرائيلي"، فقد بقيت سياسات الكيان الغاصب تعتمد عقيدة الحرب الدائمة.

احتلت بعد ذلك التاريخ، أول عاصمة عربية، وقصفت المفاعل النووي في بغداد، وأجبرت المقاومة الفلسطينية على مغادرة بيروت إلى بلدان عربية عدة، بعيدا عن هدفها في التحرير والعودة. وهوجمت تونس، واغتيل على أرضها القائد الفلسطيني الشهيد خليل الوزير (أبوجهاد). ومورست باستمرار سياسة العربدة والقتل في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وحدهم الفلسطينيون الذين تمسكوا بمشروعهم النضالي، فواصلوا هباتهم الواحدة تلو الأخرى، مطرزين بدمائهم الزكية تاريخ فلسطين. وكان الأبرز بين تلك الهبات، انتفاضة أطفال الحجارة، وانتفاضة الأقصى الشريف. وصولات وجولات لا تنتهي. عسى أن يكون في ما تسطره بطولات غزة من ملاحم درسا كبيرا، في أن ليس هناك شكل واحد من النضال، بل أشكال عدة تتفاعل فيما بينها لتوصل إلى هدف التحرير، هدف قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وتأمين حق العودة للذين فرض عليهم العيش في الشتات.