سعت المقالات السبع السابقة إلى النظر إلى النقد من منظور حقوقي. بمعنى التساؤل عن ما هي الحقوق المستحقة على أطراف ممارسة النقد تجاه بعضهم كأفراد وتجاه المجتمع المعرفي بشكل أوسع. انطلقت المقالات كذلك من وعي بإشكالية قديمة وعميقة وهي إشكالية العلاقة بين الحقوق والحرية. بمعنى أنها إشكالية القلق من الحد من حرية النقد تحت شعار الالتزامات الأخلاقية. هذا القلق حقيقي وله شواهده التاريخية المتكررة من محاولة فرض جماعة ما قيمها الأخلاقية على القول النقدي. بمعنى أن تكون منظومة أخلاقية معينة هي معيار النقد الواجب اتباعه. هذه الإشكالية جعلتنا أمام خيارين. الأول هو قطع كل علاقة بين الأخلاق والنقد والثاني هو إيجاد نوع مختلف من العلاقة بين الأخلاق والنقد.
الخيار الأول يضعنا أمام حتمية استحالة النقد باعتبار أن النقد علاقة بين أطراف تنطوي على إصدار أحكام لها علاقة بالناقد والمنقود ومجتمع المعرفة.
هذه العلاقة لن تكون عادلة ومنصفة إلا بالتزامات مشتركة بين أطرافها تحفظ ولو القدر الأساس من حضور أطراف النقد كما هم لا كما تفترض ميول ورغبات أحدهم. هذه الالتزامات هي ما يعوّل عليه في التفريق بين النقد والمدح والذم وبين النقد والعنف اللفظي. كانت مقالة "النقد والضرورة الأخلاقية" مخصصة لتقديم محاججة على أن الأخلاق ضرورية لإمكان العمل النقدي من أساسه. لهذا السبب كان أمامنا الخيار الثاني وهو إقامة علاقة مختلفة بين النقد والأخلاق. العلاقة المُشكلة هي العلاقة "المضمونية" والعلاقة المقترحة هي العلاقة "الإجرائية". العلاقة المضمونية تحدد فيها الأخلاق مضمون النقد بمعنى أن الالتزام الأخلاقي فيها يحدد للناقد معايير الحق والخير والجمال التي يفترض أن يطبّقها في عمله النقدي.
في المقابل الأخلاق الإجرائية لا تصل إلى هذا المستوى فالالتزام بها يعني فقط الالتزام بمحددات أولية للعلاقة مع أطراف عملية النقد تجعلها عادلة ومنصفة دون تحديد مضامين النقد. بمعنى أنها العلاقات التي تُلزم الناقد برؤية منقوده ورؤية مجتمع المعرفة قبل إطلاقه قوله النقدي. الرؤية هنا تعني أن يتواصل الناقد مع منقوده بأكبر قدر ممكن من التواصل وأن يكون العمل النقدي ممارسة داخل هذا التواصل. بمعنى أن الناقد يسعى لإظهار منقوده لا لطمسه من خلال إجراء النقد كحوار بين أطراف لا يتحقق الحوار بدون ظهورهم. كانت مقالة "أي أخلاق وأي نقد" محاولة لرسم ملامح هذه العلاقة الإجرائية التي تم الرهان فيها على تقديم حل لإشكال الالتزام الأخلاقي وحرية التعبير في الممارسة النقدية. داخل هذه العلاقات الناقد لديه كامل الحرية في تحديد مرجعياته وأدواته النقدية ولكنه لا يملك استحقاق طمس منقوده أو تشويه أفكاره أو النيابة عنه في التعبير عن نفسه. القيام بهذه الأعمال يعني الخروج من العمل النقدي إلى أعمال أخرى منها التصفية السياسية أو التشويه الأيديولوجي أو التنفيس النفسي أو الصراع الشخصي لا الفكري. مقالة "الأخلاق الإجرائية كقنوات تواصل" هدفت إلى إبراز الجوهر التواصلي للأخلاق الإجرائية التي يفترض أن يتحرّك ضمنها النقد. هذا الفهم يتحقق من خلال كشف الطبيعة الاجتماعية للعمل النقدي أي من خلال إبراز النقد كتواصل داخل فضاء اجتماعي عام يشمل المجتمع بكامله وخاص يشمل مجتمع المعرفة بكافة أطرافه. النقد داخل مجتمع المعرفة هو علامة الحياة داخل هذا المجتمع أي أنه علامة جوهرية على أن أفراد هذا المجتمع يتواصلون معرفيا. المجتمع المعرفي المؤسس على علاقة الشيخ بالمريد أو علاقة المنظر بالمنفذ لا يوجد فيه تواصل باعتبار أن أحد أطراف العلاقة تم طمسه وإخفاؤه من الصورة كفاعل يملك حق التفكير والقول وليس فقط التنفيذ.
الطبيعة التواصلية للأخلاق الإجرائية تجعل من البرهان جوهر هذه الأخلاق. البرهان هنا هو قيام الناقد بالانكشاف أمام القارئ. أي قيام الناقد بإخبار القارئ كيف فكّر وكيف وصل إلى أحكامه النقدية. هنا القارئ يحضر كشريك مباشر في عملية النقد باعتبار أن البرهنة المكشوفة والواضحة جعلته أيضا أمام مسؤولية أو إمكان الحكم. الناقد هنا يقول للقارئ هكذا فكّرت أنا والآن جاء دورك. تقديم مبررات الرؤى والأحكام النقدية من قبل الناقد هو التزام بحق القارئ والمنقود في المعرفة. غياب البراهين المعرفية يعني حضور الرهان على سُلطات غير معرفية تملأ فراغ البرهان.
الالتزام بالمفهوم الحقوقي للنقد ترعاه كثير من الجامعات والمراكز البحثية في العالم تحت اسم المنهج العملي وقد تخفى على كثير من المطبّقين له الأبعاد الأخلاقية المؤسسة لتلك المنهجيات، أما خارج الأكاديميات فإن الوعي بمثل تلك الالتزامات يتلاشى داخل أمواج الصراعات السياسية والاجتماعية. في الفضاءات التي يمكن فيها التمييز بين العمل الفكري والعمل السياسي التنفيذي يسهل التمييز بين النقد الفكري والعمل السياسي المدفوع بتحقيق أهداف حزبية سريعة ومباشرة. لكن في الفضاءات التي يتجنب فيها الفاعلون الكشف عن عملهم الحزبي السياسي الميداني ويقدمون أنفسهم بصفات بحثية معرفية فإن المشهد برمته يرتبك. المتوقع من الباحث المعرفي يختلف عن المتوقع من الناشط الحزبي السياسي. الأول مشغول بالفهم والتفسير والثاني مشغول بالدفع باتجاه أجندة الحزب الذي ينتمي إليه. المتوقع من المتحدث باسم الحزب السياسي يختلف عن المتوقع من الباحث الموضوعي. هذا التفريق يشير إلى توقعات أخلاقية مختلفة أيضا. المتوقع أخلاقيا من الباحث الملتزم بالإنصاف والعدالة يختلف عن المتوقع أخلاقيا من الفاعل السياسي المشغول بمصلحة جماعته الخاصة.