"سرايا عابدين" عمل ضخم شدتني إعلاناته وشعرت أني سأشاهد دراما الموسم، كما عودتنا MBC في المسلسل العظيم "عمر بن الخطاب"، فشخصية الخديوي تعطي إيحاء بالتقاطع مع مجريات العالم العربي اليوم الذي يعيش خيباته السياسية والحضارية، وقد كلف المجموعة تكلفة عالية، إلا أن التكلفة ـ مع الأسف ـ بدلا من أن تقدم عملا ذا قيمة حضارية تاريخية فنية مؤثرة في ذائقة الناس ووعيهم جاء مخيبا للآمال، وكان يفترض بالمؤلفة هبة مشاري أن تسميه "حريم السرير"! لأنها أهملت عقلية سياسية عبقرية يمكن أن تهبها مجالا دراميا مشوقا تتمثل في شخصية الخديوي إسماعيل رائد النهضة الحديثة والثورة السياسية، بجانب تاريخ إنسان القرن الـ 19 وهي بحد ذاتها كنز مهمل، ولو أنها أتعبت نفسها في القراءة قليلا لأبدعت شخوصا وأحداثا تصور لنا تاريخا مغيبا، لكن خيالها انحصر في نص مكرر، الفكرة عن "كيد الحريم"، وهمهن ليلة خلوة في "سرير الخديوي"!
هكذا تتحول حلقات المسلسل من "خلوة بدأت" و"خلوة انتهت" في تكرار فج للكلمة، وفاتني عدها لأعرف كم مرة كُتبت في النص، إنه مسلسل لا يتحدث عن شخصية لها إنجازاتها الرائدة بل عن شخصية "جنسية"، تمكث في "سرير الخلوة" أكثر مما تمكثه في مكتب الحكم ومع وزرائه، والمؤسف أن المسلسل ينطلق مضمونه من "السرير" لا "السرايا"، وقد حمل إشارات وإيحاءات خادشة في مشاهد للخديوي مع زوجاته وجارياته، بشكل مبتذل لا يتناسب مع الجو العائلي الذي يتسم به رمضان المبارك، ومعروف أني لا أعترض على وجود "الإيحاءات الجنسية" في الدراما، لكن بشرط توظيفها لخدمة الحدث، وليس إقحامها بفجاجة كما في المسلسل، الذي يبدو أنه جاء تلبية للسوق في مجتمع عربي يعيش البطالة والفقر والانحطاط المعرفي، وبالتالي "الكبت الجنسي"، دراما كهذه تتكئ على مضمون "الحريم والسرير" كما العديد من مسلسلات اليوم تكون ناجحة في سوق المشاهدة العربية وبالتالي السوق الإعلاني!
والمسألة لا تتوقف عند هذا الحد، فقد حمل نص المسلسل مغالطات تاريخية ربما مقصودة من المؤلفة لتجد نافذة هروب من جهد البحث التاريخي الذي يحتاج فيه كاتب الدراما التاريخية إلى مهارة عالية، لكني أستغرب إشارة المسلسل إلى أنه مستوحى من قصة تاريخية حقيقية، فهذا ينم عن جهل درامي لأن ما نراه ليس كذلك، فإما أن تكون دراما تاريخية تتقاطع فيها فنية الحكاية مع التاريخ، وإما أن تكون قصة مستوحاة من التاريخ، ويتطلب ذلك تغييرا جذريا للشخصيات وعجنها في الحدث التاريخي دراميا، لكن أن تكون القصة مستوحاة من حقيقة تاريخية وتستخدم الشخوص ذاتها في أحداث لا تمس حياتها، فهذا يسمى عبث تاريخي، ولعلي استشهد بمسلسل "دهشة" بطولة الرائع يحيى الفخراني وكيف أن مهارة المؤلف عبدالرحيم كمال جعلته يستوحي قصة المسلسل من مسرحية الملك لير، رغم أنها خيالية وليست حقيقية، لكن ثقافة المؤلف وعمقه الدرامي جعلاه يفطن لمعنى "يستوحي"، أي صياغة الفكرة من جديد داخل مكان وزمان وشخوص مغايرة تماما.
المساحة لا تكفي للكثير، إنما يحزنني أن تكلفة الإنتاج وفنية الإخراج والأداء المحترف للأبطال لا تغفر ركاكة التأليف وهشاشة المضمون الدرامي، فالنص عامود الدراما، وحين يفشل النص يلقي بفشله على الجميع.