موضوع مقلق جدا لنا في هذه الفترة الحساسة، أن تكون حواراتنا كمواطنين متشنجة ومنفعلة، ولا تقبل الرأي الآخر المعارض، نتيجة ذلك وخيمة علينا وعلى الوطن وعلى مستقبله، وهو أيضا متطلب أساس للأعداء الذين يتربصون بنا وبوطننا الدوائر، وفي القرآن الكريم ما أعدّه أفضل نظرية لنجاح الحوار، وذلك عندما أمر الله رسوله ـ صلى الله عله وسلم ـ أن يقترب من الناس، ويقول لهم تعالوا نتحاور، فأحدنا ضال والآخر مهتدٍ، وهذا ما رسمته الآية الكريمة بدقة عندما قال الله تعالى: "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" سبأ 24، لنضع القضية على طاولة الحوار لنعرف من الضال ومن المهتدي، ولهذا يبرز السؤال الأهم: لماذا كلما اقتربنا من أي حوار نأخذ في الحسبان أننا يجب أن ننتصر، ونأخذ في الحسبان أننا نملك الحقيقة؟، ليس الحقيقة فقط بل كل الحقيقة؟، ونمتلك الصواب؟، ليس بعض الصواب فقط ولكن كل الصواب؟، حتى المثقفين منا وحتى من يؤمل لين الجانب والتسامح فيهم، شيء يدعو للاستغراب أن ترى حواراتنا لا يكتنفها المنطق ولا تكشف مستوى الفكر الذي يفترض أن يكون عليه المتحاورون بالنظر المأمول فيهم لخبرتهم أو لتأهيلهم أو لعلمهم.

يفترض أن نكون أفضل أمة متحاورة؛ لأننا نقرأ القرآن منذ نعومة أظافرنا، ونذهب لخطب الجمعة التي تكرس فينا كل القيم الإسلامية منذ الصغر، وقيم الحوار الواردة في ديننا أفضل القيم على وجه الأرض. الله سبحانه وتعالى يعرف أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حق ويمتلك الحقيقة.. كل الحقيقة، لكنه لين لجانب والثقة وعدم التنفير وضمان استمرار الناس في السماع والانتباه، والوصول إلى الإقناع الذي ليس بعده رجوع، والاقتراب من الناس بأسلوب جذاب هادف غير منفر، كل ذلك ينجح عن النهج الذي أمر الله به رسوله في الحوار.

إذا كان هذا أدب القرآن، فلماذا يصر بعضنا على احتكار الحقيقة واحتكار الصواب، والبعض الثالث يستخدم كلمات نابية ولا يدري أن كل إناء بنا فيه ينضح، والبعض الرابع ليس لديه منطق، ومن ليس لديه منطق يجب التشكيك فيه مهما كانت كمية المعلومات التي جمعهما أو المؤهلات التي يحملها؟!

نحن كمثقفين ومتحاورين ومواطنين نتحاور ونتجادل ونختلف ونتفق، وتكون لنا رؤى مختلفة، وآراء متباينة، ووجهات نظر متنوعة، كل ذلك وارد، بل مطلوب؛ لأنه عادة ما يظهر الرأي الحصيف المناسب من اختلاف وجهات النظر، من خلال العصف الذهني المصاحب للنقاش الذي عادة ما يقف كل فرد على منظور خاص به، ويقدم رأيا مختلفا، وتجتمع في النهاية النقاط الإيجابية من كل رأي، ليتم الخروج برأي قوي شامل، يمثل وجهات النظر مجتمعة، وكل الجهات المتحاورة، هذا هو المطلوب، وإذا كان ذلك مطلوبا في الأحوال العادية، فإنه مطلوب بشكل أكثر إلحاحا في هذه الأوقات، التي يمر بها العالم بظروف حساسة جدا تتطلب الحكمة و"الدبرة" في كل ما نختلف فيه ومن أجله، وكيف نختلف، وذلك للحفاظ على وطننا ومكتسباتنا وأنفسنا.

يجب أن ندرك، مهما اختلفت رؤيتنا أو فكرنا أو مذهبنا، أن الحوارات الرعناء لا تقلقنا فقط لكنها تدمرنا. تدمر علاقاتنا وتدمر أخلاقنا، يجب أن نعرف أن المرء ذكرا كان أم أنثى هو ابن هذا الوطن وبنت هذا الوطن ويعيشون بيننا، صلاحهم يعود علينا ونفعهم يعم علينا والعكس صحيح، سلبياتهم تعمنا وشرهم يصل إلينا، فلماذا لا يحتوي بعضنا بعضا، ويتحمل بعضنا بعضا، إن الادعاء بامتلاك الصواب واحتكار الحقيقة فيه مغالاة وأمر غير مرغوب.

إن وقوف أبناء الوطن الواحد في صفين متقابلين متضادين أمر ليس فيه مصلحة لأحد، وتقسيم أبناء الوطن الواحد وتصنيفهم، ثم التعامل معهم على أساس هذا التصنيف لا يخدم أحدا، وهو أمر خطير على المدى البعيد.

اقرؤوا التاريخ لتعرفوا العامل الأساس للتخلف، وكيف تُخترق الأمم. إننا كمواطنين ومثقفين وعلماء يفترض أن ندرك بوعي كامل، أن الأمر لا يقف عند إقصاء فرد أو جماعة، إنها قضية تمس أمن وطننا ومستقبل بلادنا.

من العيب أن نلتقي في مجلس واحد، مواطنين لبلد عرف عبر تاريخه بالسماحة والمثل والمبادئ والقيم السامية، وننعت بعضنا، ونصنف بعضنا، ونقصي بعضنا بعضا، حتى مع وجود الأخطاء والتجاوزات والممارسات التي لا نقبلها يجب أن نضع مصلحة الوطن أمام كل مصلحة.

يفترض أن نعي أن ما بنيناه على مدى عمر بلادنا هو أمانة عندنا لأجيالنا القادمة. إن اختلاف التضاد بين أبناء الوطن الواحد أمر غير مقبول لكل عاقل، وإن تكريسه أمر خطير ليس في مصلحة أحد. وإن التقاءنا على المواطنة أمر لم يعد ترفا في هذا العصر. إن من يحضر بعض الحوارات في مجالسنا يصاب بالفزع بين الخلاف، وليس الاختلاف بين المتحاورين وكأننا من كواكب مختلفة. والأمر الذي يزيد حيرة أن هذا يتم بين طبقة المثقفين الواعية، الذين يفترض أن يكونوا على درجة كبيرة من الوعي بأن هذا الخلاف لا يصب في مصلحة أحد، ومن أولهم المتحاورون أنفسهم.

لنكرس ثقافة اختلاف التنوع الذي يحقق لنا الاتفاق على الأهداف التي تحفظ أمتنا، وتضمن تقدم بلادنا، وننبذ ثقافة اختلاف التضاد التي توسع الشقة وتفرق اللحمة، فنحن وبلادنا لا نستحق هذا، ولا نستحق ما سيؤدي إليه، لا سمح الله.

خلاصة القول، إننا نعاني من مشكلة كبيرة في حواراتنا، وهذا موضوع مقلق لنا في هذه الفترة الحساسة، التي لا تكون فيها اللحمة والوقوف صفا واحدا كمواطنين يحترم بعضنا بعضا في سبيل المحافظة على الوطن ومكتسباته وتضييع الفرصة على الأعداء مطلبا فقط بل ضرورة ملحة، والأمر راجع إلينا، فنحن الكاسبون إن فعلنا وبالمقابل نحن الخاسرون إن لم نفعل.