لأننا آثرنا تغليب العادات على العبادات، أخفقت معظم شعوبنا الإسلامية إخفاقا ذريعا خلال شهر رمضان المبارك في توجيه دفة العولمة لصالحها، مما أدى إلى تشويه صورتنا أمام شعوب العالم، وتراجع مكانتنا بين أقراننا.
فالإسلام، الذي شرَّفنا لتحقيق مكانتنا المرموقة على مستوى القرية الكونية، يتراجع في شهر رمضان المبارك؛ لأن حجم إسرافنا على الطعام والشراب يتضاعف سنويا في هذا الشهر الفضيل؛ بسبب عاداتنا الدنيوية السيئة؛ ولأن قيمة إنتاج مسلسلاتنا الدرامية والفكاهية تتزايد دوريا في هذا الشهر المبارك بسبب قدراتنا الفنية المبتذلة.
في العام الماضي بلغ استهلاك الشعوب الإسلامية من الأغذية 1,62 تريليون دولار أميركي، ومن المتوقع أن يصل إلى 2,47 تريليون دولار بحلول عام 2018، ليشكّل نسبة 16,6% من الإنفاق العالمي على الأغذية، علما بأن 91% من واردات الدول الإسلامية من اللحوم والحيوانات الحية تأتي من دول غير إسلامية.
المركز القومى المصري للبحوث الاجتماعية أكد أن 83% من الأسر المصرية تُغَيِّرُ عاداتها الغذائية فى شهر رمضان، ليرتفع معدل استهلاكها للطعام والشراب بنسبة 63% بسبب زيادة ولائمها الاجتماعية، وبنحو 23% مقارنة بمعدلات الأشهر العادية من العام، مما يترتب عليه زيادة في الإنفاق على الغذاء، الذي يصاحبه ارتفاع شديد فى نسبة الفاقد ليصل إلى 55% من حجم المواد الغذائية المستهلكة، ويؤثر سلبا على الاقتصاد المصري، خاصة أن الكثير من السلع الغذائية الرمضانية مستوردة ومدعومة من الدولة.
وأوضح المركز أن المصريين تناولوا في الأسبوع الأول من شهر رمضان الجاري 3 مليارات رغيف خبز و10 آلاف طن فول و40 مليون دجاجة، وبالرغم من زيادة الأسعار وضعف الدخول، فقد أثبت الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء أن الشعب المصري يصرف على الطعام في شهر رمضان 30 مليار جنيه مصري، لتزيد معدلات الاستهلاك بنسبة 200% للسمن والزبادي و50% للحوم والسكر و35% للأرز والمكرونة.
وفي دول الخليج العربية، فإن الإنفاق على الطعام والشراب يتزايد في شهر رمضان بنسبة تتراوح بين 30% و60% عنه في بقية أشهر السنة، وذلك في الوقت الذي بلغ فيه العجز الغذائي الخليجي ما قيمته 22 مليار دولار، وفق دراسة الهيئة العربية للاستثمار والنماء الزراعي.
أما باقي الدول العربية، فإن نصيب شهر رمضان من جملة الاستهلاك السنوي للطعام والشراب يقدر بنسبة 20%، مما يكلف خزائن تلك الدول نحو 720 مليون دولار أميركي إضافي سنويا، ويذهب 45% من الأطعمة في سلة المهملات.
هذا في الوقت الذي من المتوقع أن تصل قيمة سوق الواردات الغذائية في الوطن العربي إلى 54 مليار دولار أميركي بحلول عام 2020، إضافة إلى أن أسعار الغذاء تسجل ارتفاعا سنويا يبلغ 11% بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والنقل والتأمين، وانحسار كمية المياه وزيادة وتيرة التصحر، وتفاقم التغير المناخي.
وفي شهر رمضان المبارك لا يقل إسرافنا الغذائي عن سباقنا التنافسي في إنتاج المسلسلات الدرامية، التي تعرض سنويا على الفضائيات العربية. خلال الشهر الجاري أنتج الوطن العربي 108 مسلسلات، 66% منها درامي و34% كوميدي، لذا تألقت الفضائيات العربية بعرض 48 مسلسلا مصريا و35 خليجيا و10 مسلسلات سورية و5 عراقية و10 مسلسلات موزعة على دول المغرب العربي.
تكلفة إنتاج هذه المسلسلات ارتفعت بنسبة 35% عن العام الماضي، لتفوق قيمتها في رمضان الجاري بأكثر من 250 مليون دولار أميركي. وصلت ميزانية العمل التاريخي الوحيد، الذي يتم عرضه خلال السباق الرمضاني الجاري "سرايا عابدين"، إلى 130 مليون جنيه مصري لتحصل الفنانة الرئيسة على 15 مليون جنيه مقابل دورها البطولي في المسلسل، وتبعه مسلسل "صاحب السعادة" الذي بلغت تكلفة إنتاجه 80 مليون جنيه مصري، وحصل بطله على 30 مليون جنيه، بينما بلغت ميزانية مسلسل "السيدة الأولى" 60 مليون جنيه.
وبالرغم من انحسار عدد المسلسلات الدينية في شهر رمضان الجاري، إلا أن معظم الأعمال الفنية المعروضة على الفضائيات العربية آثرت، وسط امتعاض النقاد، محاكاة الحاضر المرير للشعوب العربية، بما فيها التراجع الأخلاقي والعنف الأسري، وكأن الحضارة الإسلامية، التي يتهافت الغرب على دراسة أسرارها، أصبحت خالية من سيرة علماء المسلمين الذي اكتشفوا الطب والرياضيات وانكسار الضوء، وفكوا طلاسم الجبر والفلك والفيزياء، وأرسوا مبادئ هندسة النظم، وحددوا حركة النجوم وجغرافيا المناخ.
أين مسلسلاتنا العربية التي تحفز شعوبنا على كيفية القضاء على الفقر والمرض والجهل والبطالة، خاصة وأن حجم ناتج اقتصادنا الإسلامي المحلي الإجمالي وصل خلال العام الجاري إلى 8 تريليونات دولار، وسيحقق نموا سنويا يتخطى نسبة 6% حتى عام 2018 مقارنة بنمو مثيله العالمي، الذي لن يزيد عن 5,3%؟ وأين أعمالنا الفنية التي تشجع شباب أمتنا على تطبيق مبادئ العمل عبادة والنظافة من الإيمان والإتقان من الإحسان، وتحذرهم من مخاطر الأفكار الضالة والإشاعات الهدامة، وتحضهم على حب الوطن وتحصين الذات بالعلم والمعرفة، وتنبههم إلى مساوئ العبث والفساد والتخلف؟، بل أين مسلسلاتنا الفذة التي توضح حقيقة شهر الصيام، الذي جاء لتهذيب الروح والجسد قبل تأديب الفم والمعدة، وأكد على بذل العطاء في العمل بدلا من النوم والكسل، وأوصانا بإطعام المسكين وكفالة اليتيم بدلا من تحطيم الأرقام القياسية في الإسراف على الطعام أو سهر الليالي مع مسلسلات الفنانين؟.
عاداتنا، وليست عبادتنا، هي التي تشوه صورتنا في رمضان الكريم.