يشيع عند أهل مكة بل وفي كثير من المدن العربية مثل يطلق للتيئيس من شيء ما "في المشمش"، ولا أدري ما هو أصل هذا المثل، ولماذا المشمش تحديدا دون سائر الفاكهة، قد يكون لقصر موسم المشمش دور في هذا؟ أو لتوالي حرفي الميم والشين مما قد يفيد الاستخفاف حين يطلق هذا اللفظ على الأمر موضع الحديث، عموما أعملت نظري في الفاكهة حين حدثني أحد الأصدقاء عن قريب له في أحد بلادنا الغارقة الآن في الظلمات، وذكر لي شغف قريبه هذا بمزرعة كمثرى لديه كانت سمعه وبصره بل حياته كلها، يهيم بها بل يعيش فيها أحيانا، يرعاها، يهتم بشجرها، يطببها، يسقيها، لا لتجارة ولكن حبا وهواية، فإذا نضجت ثمارها عرف طعم ثمر كل شجرة من أشجاره تلك التي كان يسميها، ويعرف إذا اختلف طعم ثمر شجرة ما لم اختلف هذا الطعم؟ الذي أثار انتباهي هو الدقة في تمييز ثمار كل شجرة، بل إن لكل شجرة من الكمثرى طعما خاصا للثمر يختلف عن الأخرى، عدت بعد هذه القصة متأملا بستانا للمشمش لوالدي حفظه الله في الهدا بمنطقة الطائف، هذا الثمر الذي أستلذ به كلما زرت البستان صيفا، لم يجل في خاطري أن أفكر في أن لكل واحدة من الثمر طعما مختلفا عن الأخرى! كل ثمرة تعود لغصن ولكل غصن ثماره التي تختلف عن الآخر، ولكل مجموعة من الأغصان شجرة تختلف عن غيرها من الأشجار! ألا كم هو مقدار التنوع فيك أيها المشمش!
ألا ما أشبه البشر بك أيها المشمش! بل ما أشبه البشر بك أيتها الفاكهة! نحن مختلفون، متميزون، فينا الطويل والقصير، وفينا الأبيض والأسود والأصفر، كل واحد منا هو آية من آيات الله في خلقه، إبداع وإتقان في الصنع وفي التكوين من لدنه سبحانه، "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" (الروم/22). هل التنوع إذًا هو سنة من سنن هذا الوجود؟ "ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات/13) ما أكثر هذه الشعوب! وأكثر منها هذه القبائل في كل أنحاء المعمورة! إن التنوع حقيقة هو سنة من سنن هذا الوجود: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلف ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود" (فاطر/27). وأعجبني معنى جميل قرأته في كتاب دوامات التدين ليوسف زيدان وهو يكتب عن التنوع الإنساني في أنماط التدين، فهو ينقل عن الإمام الجيلي الذي درس حياته وفكره في رسالته للدكتوراه، أن الطريق إلى الله بعدد أنفاس البشر! ألا ما أوسع هذه الحياة وأرحبها لكل من يريد ويسعى إلى الخير والحق والجمال! إنك إن أردت سعيت إلى الله في كل ساعة! بل في كل ثانية! وفي كل حال وفي كل مقام! فالطريق إلى الله لا تنتهي سبله!
وفي كل هذا رسالة مفتوحة إلى كل من يريدون أن يختموا على الأفكار بختم واحد: إن عملكم هذا مستحيل! وإلى كل الذين يريدون أن يفرضوا نمطا واحدا في الحياة: إنكم ستفشلون لا محالة! وإلى كل الذين لا يراعون سنة التنوع في قراراتهم وأحكامهم: إن عليكم أن تراجعوا ما قررتموه! وإلى كل الذين يتبعون سياسة المحو والإلغاء والتهميش والتطهير العنصري، أن أبشروا بفشل ما تعملون ولو بعد حين! لماذا لا يقبل البشر بعضهم بعضا؟ لماذا يتعالى نفر من الناس على بعض؟ لم قامت الحروب؟ ما سبب محاكم التفتيش؟ هل الجنس الآري أو الرجل الأبيض هو أرقى أنواع البشر؟ لم لا تزال أفريقيا إلى الآن ترزح في وحول الفقر والفساد والتخلف؟ من الذي استعبد ملايين البشر في أفريقيا وهجرهم ونكل بهم وعاملهم كالحيوانات بل أنكى من معاملة الحيوانات؟
إن الإيمان بسنة التنوع هذه يقي من الانزلاق في كثير من دروب الشر والتطرف. تخيل امرأ لا يأكل إلا صنفا واحدا من الطعام، صنفا واحدا لا يتجاوزه إلى غيره، ولا يرضى بسواه، ولا يعرف خضارا ولا فاكهة فكيف ستكون صحته! لا شك أن مصيره السقم والعطب. إن سنة التنوع هذه لها دور كبير في نجاح العملية التعليمية بشكل عام هو ضرورة مراعاة التنوع عند التدريس وعند التقويم، فكيف يكون هذا؟ إذا أقررنا بمبدأ التنوع، فإن تطبيقه في التعليم يعني أن الطلاب لا يتشابهون في طرق فهمهم واستيعابهم! فمنهم الذكي الألمعي الذي يفهم من مجرد السماع! ومنهم الذكي الألمعي الذي لا يفهم إلا إذا رأى وشاهد صورة وألوانا! ومنهم الذكي الألمعي الذي لا يستوعب إلا إذا قرأ وحده وتأمل! ومنهم الذكي الألمعي الذي إذا لم يكتب كأنه ما حضر ولا استمع ولا تعلم! ومنهم الذكي الألمعي الذي إن لم تسأله وسألك، وإن لم تناقشه ويناقشك فكأنه حضر للنزهة لا لطلب العلم! وهذا ما يطلق عليه في فقه التعليم "أنماط التعلم" فما على المعلم إذًا إلا أن يراعي كل هذا! فإن درسه يجب أن تتنوع طريقة عرضه فلا يتكلم فقط ناسيا طلابه، بل يسأل ويناقش ويحاور، ويكتب أمامهم، ويرسم أو يحضر ما هو مرسوم جاهز للشرح والإيضاح، وهكذا، ليضمن كل طالب في أن يجد بغيته في هذا الدرس، وليس الحديث هنا عن التدريس وإلا فإن أكثر ما يقنع في الدرس حقيقة هو الإثارة! قدرة الأستاذ على إثارة هؤلاء الطلاب بشتى مشاربهم وبتنوع شخصياتهم نحو موضوع الدرس بشتى الأساليب. ويأتي بعد ذلك موضوع التقويم، فكما أقررنا بضرورة تنوع أساليب التدريس والتعليم فكذلك يجب أن تكون أساليب التقويم متعددة متنوعة؛ فمن لم يوفق في الأسئلة الكتابية، لعله يبرع في الأسئلة العملية والعكس بالعكس.
أتمنى أن تكون فكرة التنوع قد زادت حلاوة بثمرة المشمش! إن فكرة الكتابة عن المشمش لاحت لي منذ فترة حين قابلت صديقي ذاك، لكني بردت وانشغلت عن الكتابة، إلا أني حين وجدت عبارة في نهاية الجزء الثاني من ملحمة روائية رائعة هي (رماد من الشرق) خطها يراع واسيني الأعرج تحكي فصولا من تاريخنا المعاصر بجهد بحثي مميز وسرد قصصي سلس، هذه العبارة شحذت همتي وشجعتني كي أكتب عن المشمش، وقد جاءت على لسان جد بطل الرواية، هذا الجد المناضل البطل الذي ذهبت روحه في سبيل وطنه وأمته، وهو يوصي ابنه شريف: (مثل المشمش البري أنت يا ولدي شريف، عودك قوي وماء قليل يسقيك)، أرأيتم مقدار ما يمكن أن نتعلمه من هذه الثمرة الحلوة!