أصبح شهر رمضان المبارك الفرصة الدرامية المثالية للممثلين وشركات الإنتاج الفني، ويتبع ذلك تنافس رهيب في الحصول على أدوار من ناحية، ومحاولة تجويد المادة الفنية في المسلسلات من ناحية أخرى، وبين هذا وذاك تسقط كثير من الحقائق ويتم تجاهل أخرى، خاصة فيما يتعلق بأي مرجعيات تاريخية للسيناريوهات، بحيث يتدخل الخيال بصورة مانعة لحضور وتجسيد الواقع، رغم أن العملية الإبداعية لا ترفض القليل من الخيال في الحبكة التاريخية أو الواقعية.

المسلسلات ذات العمق التاريخي قابلة لحدوث تشويهات من وحي خيال المؤلف أو المخرج، وحدث ذلك في كثير منها وتسببت في صراعات انتهت إلى القضاء، ولعلنا في رمضان الحالي نقترب من مفارقات تاريخية واضحة في مسلسل "سرايا عابدين" الذي يشار إليه في مستهل التتر بأنه قصة واقعية تاريخية، غير أنه مع تتابع الحلقات يتسرب إلينا الشك في صحة السرد الفني ومجريات السيناريو، ويبرز من يؤكد أن المسلسل تعرض لإقصاء كثير من الحقائق وأصبح خياليا إلى حد كبير من واقع المعلومات الخاطئة والأحداث غير الدقيقة فيه.

الدور الرئيس في المسلسل للخديوي إسماعيل الذي يؤديه الممثل السوري قصي خولي، وتجسيد هذه الشخصية المحورية في العمل يتطلب عدم تكثيف الخيال حوله لأنه سيكون أكثر الشخصيات بروزا وحضورا في ذهن المتابع والمتلقي، وعليه يقاس المسلسل بأكمله أو يستأثر بالجزء الأكبر من تحديد القيمة الفنية له، وحين نطبع صورة تاريخية وذهنية في مخيلتنا عن الخديوي ودوره الحضاري والنهضوي في مصر ونجدها مبتذلة في المسلسل فإن ذلك دون شك سيكون صادما.

الخديوي إسماعيل محور وبطل المسلسل، هو خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، واستطاع أن يضع بصماته المميزة في نهضة مصر التي أعطاها دفعة قوية للتحديث، ويسجل له التاريخ أنه في عهده تم تحويل مجلس المشورة الذي أسسه جده محمد علي باشا إلى مجلس شورى النواب، وأتاح للشعب اختيار ممثليه، كما تم وضع تنظيم إداري للبلاد، وإنشاء مجالس محلية منتخبة للمعاونة في إدارة الدولة، وأصبح للمجالس المحلية حق النظر في الدعاوى الجنائية والمدنية، وأيضا تم الانتهاء من حفر قناة السويس، وإنشاء قصور فخمة مثل قصر عابدين، وإنشاء دار الأوبرا الخديوية، واستخدام البرق والبريد وتطوير السكك الحديدية، وإضاءة الشوارع ومد أنابيب المياه، إلى جانب ذلك زيادة مساحة الأراضي الزراعية، وفي سجله كذلك وضع قانون أساس للتعليم، وإنشاء أول مدرسة لتعليم الفتيات في مصر، وظهور الصحف ومن بينها "الأهرام" العريقة.

ولا أعتقد مع هذه الحقائق والإنجازات وغيرها الكثير أن الخديوي إسماعيل كان مهووسا بالنساء، ومنصرفا عن إدارة شؤون الدولة إلى الحد الذي نشاهده في المسلسل، وذلك يفرغه من مضمونه الدرامي وحقيقته التاريخية، وحتى لو احتاجت مؤلفته الكويتية هبة مشاري لجرعة خيال في المسلسل فإنها شطحت وأسرفت فيها إلى الدرجة التي لم يتم التعامل فيها حرفيا مع تلك المنجزات التي لم نر منها غير إنشاء مجلس شورى النواب بشكل عرضي وغير مؤثر أو لافت، كما أن الحقائق التاريخية المغلوطة ذهبت بقيمة العمل وجعلته تهريجا أفقدنا لذة المتابعة، وكأن المغالطات التي احتشدت في كل جوانب المسلسل ما هي إلا ملح زائد في طبق حلو، ولذلك استحق نقدا تاريخيا مهنيا إلى جانب النقد الفني، وذلك بصورة جعلت عددا من المؤرخين يصفون المسلسل بالمؤامرة على الخديوي إسماعيل وتاريخ مصر وسمعتها وهويتها، وأن ما جاء في المسلسل مهازل، وأن ما حدث ليس أخطاء بل "مؤامرات"، ولم يسلم اسمه "سرايا عابدين"، من الخطأ إذ إن الكلمة الصحيحة في الفترة الزمنية التي يتناولها المسلسل هي "سراي"، وحتى كلمة "خديوي" لم تناسب السياق التاريخي لتلك الفترة.

ولم ينته طوفان النقد عند هؤلاء وإنما انتهى إلى أحد أصحاب الشأن وهو أحمد فؤاد الثاني آخر حكام أسرة محمد علي، ونجل الملك فاروق، الذي هاجم المسلسل وقال إنه امتلأ بالمغالطات التاريخية والجغرافية وبالخلط في الشخصيات، الأمر الذي ينم عن جهل شديد بتاريخ أفراد الأسرة وبتاريخ الوطن في فترة من أزهى فتراته، كما امتلأ بالاتهامات للخديوي ولبعض زوجاته بالقتل والتآمر والفساد وسوء الخلق، ولذلك نأسف إلى أن ينتهي جهد فني كبير إلى هذه النهاية المتواضعة تاريخيا وفنيا، وتصوير مشاهد يمكن أن نطلق عليها "غير عائلية" ولا تليق بالشهر الكريم، وحين تتواضع الأعمال ويرتكب مثل هذه السوءات الدرامية فإن التطور الفني يصبح محل شك.. ولا شك.