من يستهين باستباحة قطرة دم لإنسان مهما كان عرقه ودينه، سيهون عليه أن يقتل ـ وببرود تام ـ من يخالفه في رأي وقرار بزعم ظنه أنه هو الصواب والحق المطلق، وهذا هو الجديد الذي نراه ونسمعه من التنظيم الإرهابي "داعش" يوما بعد يوم. فقد قام النظام بتصفية خمسة من المنتمين لهم من الجنسية السعودية، رفضوا المشاركة في قتل سعوديين آخرين من أفراد جبهة النصرة وحاولوا الانشقاق عن الجماعة الإرهابية "داعش". ورغم بشاعة الموقف وسوداويته إلا أنه غير مستغرب على مثل هذه الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي يكون مبدؤها في التعامل مع الآخرين: "لا أُريكم إلا ما أرى"، وهم بزعمهم يمثلون الإسلام وتجمعهم أهداف تبدو للمتابع مشتركة.
أحادية الرأي والنظرة التي نشاهدها عند "داعش"، ومن قبلهم "القاعدة"، و"الإخوان المسلمين" وغيرهم، والتي تتنافى مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية من أريحية وسماحة في التعامل مع الآخرين والمخالفين، وحرمة دمائهم وأعراضهم هي ـ للأسف ـ ما تربى عليه أتباع هذه الجماعات - والذين ينتمي عدد كبير منهم لهذه البلاد الطاهرة تربية وتعليما- وطبقوه وما زالوا يطبقونه في تعاملهم مع من حولهم، وهو ذاته الذي زُرع في عقولنا من قبل وما زال يزرع في عقول أبنائنا الآن ويتعهد برعايته وسقياه "التعليم المختطف" وتسطيح المنابر ووسائط الإعلام المتطرفة.
يأخذ رفض الآخر في مجتمعنا عدة صور، ومنها ما رأيناه قبل عدة أيام في برنامج حواري شهير مع ضيف يصنف على أنه "داعية إسلامي"، تحدث فيه بتشنج واضح واتهامات مباشرة لأطياف كثيرة في المجتمع يحركها سعاره وهوسه الجنسي في رؤيته للمرأة وكل ما يتعلق بها من: تعليم، وعمل، وأسلوب حياة. فإن كانت هذه آراؤه التي يُصدرها للناس والمتلقين البسطاء تحت شعار الدعوة لله فهي خطوة أولى في درب "الاستدعاش المحلي"، فرفض "إنسان" باعتبار جنسه والتربص به وكيل التهم الجاهزة مصيبة المصائب.
ومن صور الرفض في مجتمعنا أيضا والتي سمعتها مباشرة قبل أيام في حديقة عامة أقيمت فيها صلاة التراويح وختمت بدعاء قيام خاشع أمّن فيه المصلون بعد إمامهم على دعوات نارية أن ينصر الله طائفة من المسلمين على طائفة أخرى وأن يلحق الله الهزائم بتلك الجماعة و"ينصرنا"عليهم! مع دعوات أخرى للمجاهدين في الشام والعراق والتي تكرس في الأذهان أن من يقاسمنا الوطن والحياة الاجتماعية من أخوتنا من المذهب الآخر ليسوا إلا أعداء علينا أن نناصبهم العداء ونتربص بهم الكراهية والدعاء. كما ترسم في الخيال أن الاقتتال الحاصل في تلك البلاد ليس إلا صورة من "الجهاد الإسلامي" الحلم الذي يطبع مع فكرة الاستشهاد في ذهنية النشء.
لا تتوقف هذه الصور عند هذا الحد، بل نراها تقف ضد بعض الوظائف والمهن ورفضها. وهذا الأمر كان له تاريخ بعيد بدأ برفض تعليم المرأة ابتداء، ثم رفض عملها بالطب، ومؤخرا رفض عملها بائعة في مواقع مختلفة. فنجد الكثير مثل "الداعية الإسلامي" الذي أشرنا إليه في الفقرات السابقة يتهم جميع من ينتسب لمهنة الطب العظيمة بالتحرش، دون احترام لأعداد كبيرة من بنات وأبناء الوطن يحرقون أنفسهم لخدمة الآخرين إنسانيا ومهنيا ودون خشية الله في التطاول على الأعراض وسقيا بذرة التطرف والشك في من ينتمي لهذه المهنة في صدور الأجيال القادمة. ولكن سجله الأسود القديم يوضح أنه نفسه من حرض مؤيديه على التحرش بالعاملات "ككاشيرات" في محلات بيع الملابس النسائية وكأن مثل هذا التصرف اللاديني وغير الإنساني وغير الحضاري يسهم في السلم الاجتماعي الذي تزعزعه مثل هذه الدعوات. والأغرب أن نجد من تعتبر عمل المرأة بالمجمل مدعاة للفساد و"السفاح" ثم نراها تتبوأ مراكز وظيفية وتكليفية عالية وكأنها خارج دائرة المرأة المعنية بالتحريض السابق.
الذهنية الدعوية القائمة على الإقصاء ونبذ الآخر المخالف، والمتسيدة في المشهد الاجتماعي بشكل واضح ـ ومهما حاولنا أن نجمل هذا الواقع ـ تتعارض ـ كما ذكرت مسبقا ـ مع غاية الإسلام الإنسانية لنشر المحبة والسلام والتسامح بين أفراد الشعوب والأمم. وهذا يتعارض أيضا مع محاولات الدولة لنشر ثقافة الحوار في المجتمع والتي بدأت بشكل رسمي بإنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني عام 1424، الذي من أهدافه الرئيسة والمعلنة: "تكريس الوحدة الوطنية في إطار الشريعة الإسلامية عن طريق الحوار والإسهام في صياغة الخطاب الإسلامي الصحيح المبني على الوسطية والاعتدال داخل المملكة وخارجها من خلال الحوار".
واليوم، بعد مرور عشر سنوات على إنشاء مركز الحوار الوطني، ومع التشكيل الجديد لمجلس أمناء المركز والذي يضم تنوعا فكريا، وما يمر به مجتمعنا من صراعات فكرية وتراشق بالتهم الإقصائية والتطاول الطائفي النتن، نعلق آمالا عريضة على أن يكون الحوار –الخطوة الأولى لتقبل الآخر- مطروحا بشكل جدي في مختلف الجهات والمناسبات ويدخل في عمق مشكلاتنا المحلية، مع وضع حلول واضحة وقوانين صارمة تجرم العنف الطائفي والديني المتشدد الذي يقصي الآخر ويهمشه وقد يؤدي للتعاطف والتعاون مع الجهات الإرهابية خارج الوطن ويعرض الأمن الوطني والسلم الاجتماعي للخطر.
إن الاتفاق على أن الدين الإسلامي يتسع لكل الاختلافات البشرية، ويحتويها بإنسانية لا تقدر عليها الأنظمة الأخرى، هو الحقيقة الأولى التي ينبغي أن يدركها جميع مواطني هذا البلد ويتعايشوا معها بانسجام، فإذا ما تحقق هذا الشيء مع المسلمين سنة وشيعة الذين نتقاسم معهم الأرض، وتقبل السني أخاه السني الآخر والعكس، وتقاسم الرجل الحياة بسلام مع المرأة في وطنه مؤمنا بحريتها ومسؤوليتها وتقبلت المرأة المرأة، استطعنا أن نأمن على أنفسنا من خطر الإرهاب وأن نتحاور مع الأديان الأخرى ونتعايش مع العالم حولنا بسلام ومحبة.