إنه محل الخير أو الشر.. والإيمان أو الكفر.. والبصيرة أو العمى.. واليقظة أو الغفلة.. والهداية أو الضلال.. واليقين أو الريبة.. واللين أو الغلظة.. والرأفة أو القسوة. احتل مكانة محورية في الفكر الديني والأخلاقي منذ فجر التاريخ، واعتبره الحكماء والعلماء والفلاسفة جوهر الإنسان.. إنه القلب، فهل هو مجرد مضخة دم أم أنه أكثر من ذلك بكثير؟

على مر سنوات طويلة درس علماء الغرب القلب من الناحية الفسيولوجية واعتبروه مجرد مضخة للدم لا أكثر. وهذا المفهوم مخالف لقراءة النصوص في الكتب السماوية التي تعطي القلب موقعاً مركزياً سيادياً على فكر الإنسان ومشاعره وسلوكه.

وقد ذكر القلب في القرآن الكريم أكثر من 132 مرة أوضح الخالق فيها وظائف متعددة للقلب. القلب الذي يتدبر فقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). القلب الذي يعقل فقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا). القلب الذي يفقه فقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا). القلب الذي يستقبل الوحي فقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). القلب الذي يؤمن ويتيقن فيطمئن، فقال: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). القلب الذي يخطط للمعصية فقال: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ). القلب الذي يرينا الخالق قدرته به وعليه فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، وقال: (كَذَ?لِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى? كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ). القلب الذي يكتم الحق فقال: (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). القلب الذي يحدد مآل الإنسان في حياته الآخرة فقال: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، مع أن العقل بناء على الفهم السائد هو الذي يتدبر ويعقل ويفقه ويخطط، بل إن العقل مناط التكليف.

لقد اتخذ الماديون من قضية محورية القلب هذه في الفكر الديني والأخلاقي منطلقاً للهجوم على الدين والتشكيك فيه، ذلك أن المفاهيم العلمية السائدة كانت ترى أن جميع العمليات العقلية والأخلاقية والسلوكية والمشاعر يوجهها الدماغ، وليس القلب إلا مضخة للدم. ولكن في العقدين السابقين بدأنا نكتشف أن القلب ليس مجرد مضخة، وأن العلاقة بين القلب والعقل سيادية متبادلة. فماذا يقول العلم وماذا قال القرآن قبل 1400 سنة؟

قام د. أندرو أرمر أحد مؤسسي علم أعصاب القلب في عام 1994م بمفاجأة العالم بقوله إن للقلب جهازاً عصبياً خاصاً يستحق أن يدعى المخ الصغير، ويتكون من حوالي 40.000 خلية عصبية، وتستخدم نفس الناقلات العصبية الكيميائية والبروتينات التي يستخدمها المخ. مخ القلب يستطيع تنظيم أداء القلب بمعزل عن الجهاز العصبي في الدماغ، وهذا ما يحدث بالفعل في المرضى الذين تجرى لهم عمليات جراحات نقل القلب والتي يتم فيها قطع الأعصاب التي يتواصل بها المخ مع القلب.

لقد أثبت العلم أن القلب يتواصل مع الدماغ بآليات أربع، الآلية الأولى كهرومغناطيسية، فكل خلية من خلايا القلب العضلية لها مجال كهرومغناطيسي، ويمكن تسجيل نشاطها الكهربائي من أي مكان من جلد الإنسان باستخدام رسام القلب الكهربائي، وتبلغ شدة هذا النشاط 60 ضعفَ شدةِ النشاط الكهربائي للمخ الذي يسجل عن طريق رسام المخ الكهربائي. هذه التغيرات في النشاط الكهربائي تؤدي إلى توليد مجال مغناطيسي متغير حول القلب قوته 5000 ضعف قوة المجال المغناطيسي للمخ، بل يمكن رصد هذا المجال على مسافة تصل إلى 3 أمتار حول جسم الإنسان.

وقد أثبت باستخدام أجهزة رصد دقيقة حدوث تداخل بين المجالين الكهرومغناطيسيين لقلبي شخصين متجاورين مما قد يؤدي إلى تناغم أو إلى تشويش. بل أثبت العلم أن أثناء الرضاعة وحمل الأم لطفلها قريباً منها فإن المجال المغناطيسي لقلب الطفل يتم ضبطه ضبطاً دقيقاً ليتزامن ويتآلف ويتوافق مع مجال الأم. وبذلك فإن الأم خلال الحمل والرضاعة تنقل الكثير من المعلومات لطفلها عن طريق المجال الكهرومغناطيسي كتقبلها وحبها له، هل هو مرغوب أم هو مرفوض؟

الآلية الثانية عصبية، حيث إن المخ يتحكم في تنظيم عمل القلب خلال الجهاز العصبي اللاإرادي، حيث تنتقل التعليمات من المخ إلى القلب، ولكن أثبت حديثاً أن هناك إشارات غزيرة تنطلق في الاتجاه المعاكس من القلب إلى المخ عن طريق نفس الجهاز العصبي اللاإرادي إلى أهم أجزاء الدماغ الأميجدلا والمهاد وقاع الفص الأمامي للمخ وهو المسؤول عن التنسيق بين المشاعر والوظائف العقلية. بل وجد أن تنشيط عصب يدعى العصب الحائر في القلب يؤدي إلى تهدئة النشاط الكهربائي في المخ بنسبة تصل إلى 50%، ولهذا اعتمد هذا الأسلوب لعلاج الصرع وحالات الاكتئاب المستعصية.

الآلية الثالثة ميكانيكية حيث يحتوي الأذين الأيمن للقلب والشريان الأورطي على مستقبلات ميكانيكية للتحكم في معدل ضربات القلب وكمية الدم المدفوع للقلب، وكذلك تؤثر على النشاط الكهربائي للمخ.

أما الآلية الرابعة فهي كيميائية، حيث يفرز القلب 6 هرمونات تنظم عمل غدد رئيسية في الدماغ وتكوين بروتين مسؤول عن حماية الخلايا العصبية في الدماغ، وأحد هذه الهرمونات هو هرمون الأوكسيتوسن، وهو هرمون الحب والترابط والتوافق والأمومة، حيث إن مستوى إفرازه في القلب يعادل إفرازه في الدماغ، وهذا الهرمون هو المسؤول عن مشاعر الحب والتعاطف والترابط والتوافق، والذي يفرز بكميات كبيرة أثناء الرضاعة، كما أنه يدعم القدرة على التأقلم وتحمل التوترات وكذلك التعلم والذاكرة، وكذلك يفرز القلب ناقلات عصبية مثل الدوبامين والأدرينالين.

يقول المؤلفان ديفيد ماك آرثر وبروس جيم ماك آرثر، في كتاب (القلب الذكي) "مع كل نبضة لا يدفع القلب دفقة من الدم فقط، بل يبعث برسائل عصبية هرمونية وميكانيكية وكهرومغناطيسية إلى المخ محملة بكثير من المعلومات، فإذا كانت نبضات القلب في توافق عالٍ فسوف تصل هذه المعلومات إلى المخ وتتحسن وظائف القشرة المخية الحسية والإدراكية والمعرفية والذهنية والنفسية، مما يؤدي إلى صفاء عقلي ونفسي مع قدرة أعلى على وزن الأمور واتخاذ القرار فتتفجر القدرات الإبداعية للإنسان، ويؤدي ذلك كله إلى قدر عال من التوافق العقلي والنفسي".

بل إن القلب يرسل للدماغ معلومات أكثر من تلك التي يستقبلها منه، والقلب يخاطب المخ وينسق معه جميع الأنشطة، فكما ينشط المخ بمراكز ذاكرته وحسه بواسطة التغذية الراجعة عبر الشبكات العصبية الدموية، فكذلك الحال بالقلب الذي يعمل كجهاز تخزين للمعلومات والذكريات عن طريق التغذية الراجعة عبر كل من الأعصاب والدم كما يؤكد د. بول برسال في كتابه (شفرة القلب). وهذا ما يؤكده البروفيسور جاري شوارتس أخصائي الطب النفسي في جامعة أريزونا، والدكتورة ليندا روسيك حيث يعتقدان أن للقلب طاقة خاصة يتم بها تخزين المعلومات ومعالجتها أيضاً، فالذاكرة ليست فقط في الدماغ، بل قد يكون القلب محركاً لها ومشرفاً عليها. وفي مقال قادم بإذن الله سنحاول تتبع المزيد من الدراسات العلمية عن القلب وسنتعرض لظواهر غريبة تتعلق به استعصت على إيجاد تفسير منطقي لها، ويواصل العلم في كل يوم كشف ما قد يفسّرها.