هناك ثلاثة أسباب جوهرية تَعترض التنسيقَ بين المحكمة العليا ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في شأن الأهلّة. وتؤدي هذه الأسباب - مجتمعة أو متفرِّقة - إلى الاضطراب الذي نشهده كل عام في تحديد أوائل أشهر العبادات الموسمية ونهاياتها.
وتتصل هذه الأسباب بالعلاقة بين الجهتين، وبأمور خاصة بكل واحدة منهما.
فيتمثل السبب الخاص بالعلاقة بينهما في نص المادة الخامسة في "لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية" على أن تتبع لجان التحري "في مواعيد تحريها وترائيها ما يصدر عن (المحكمة العليا) من إعلانات طلب التحري".
ولم تنصّ اللائحة على أية معايير تعتمدها المحكمة في إصدارها إعلانات التحري. ويبدو أن المعيار الوحيد الذي تعتمده هو تاريخ التاسع والعشرين من الشهر، بغض النظر عن وضع الهلال في مساء ذلك اليوم.
وكان المنتظر أن يكون طلب التحري مرتبطا بما نصت عليه المادة الثامنة من اللائحة التي كلّفت المدينة بـ"إعداد جداول سنوية أو أكثر، توضح مواعيد الاقتران (مولد الهلال) شهريا، ومواعيد شروق الشمس والقمر وغروبهما، وموقع الهلال وشكله في مظنة رؤيته". فالمدينة هي التي يمكن أن تقدم للمحكمة المعايير العلمية التي يمكن اعتمادها في طلب تحري الهلال بدلا من الاكتفاء بمعيار اليوم التاسع والعشرين من الشهر وحده.
يُضاف إلى هذا أن المادة الثانية من اللائحة تنص على أن "المعتمد في دخول الشهر وخروجه الرؤيةُ الشرعية حسب ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء". وكان مجلس هيئة كبار العلماء قد أفتى في 1403هـ بأنه "إذا رؤي الهلال رؤية حقيقية بواسطة المنظار تعين العمل بهذه الرؤية ولو لم ير بالعين المجردة". ومع هذا لم تُستخدم هذه الوسيلة قط، لا في النفي ولا في الإثبات. ذلك أن المحكمة لا تنظر إلا إلى "شهود الإثبات" المبادرين بالشهادة الواهمة غالبا، ولا تعارض شهاداتهم برصد الفلكيين الذين يعدون "شهودا للنفي".
فعدم نص اللائحة على أن تعتمد المحكمة العليا في طلبها ترائي الهلال على ما تحدده الجداول الفلكية التي تصدرها المدينة هو ما يجعلها تعمل باستقلال عن المدينة وجداولها الفلكية العلمية.
ويتعلق السبب الثاني باستمرار المحكمة في رفض الاعتداد بالحساب الفلكي، الذي تقوم عليه الجداول التي تنجزها المدينة. ومن اللافت أن المحكمة لا ترفض تلك الجداول الفلكية دائما. فهي تعتمدها في تحديد بداية الأشهر التي تسبق رمضان ونهاياتها. ومما يوحي بذلك أنها لم تعلن هذه السنة - على حد علمي - عن طلب تحري هلاليْ رجب وشعبان، كالمعهود في السنوات السابقة، اكتفاء بحسابات المدينة الفلكية. وربما يعود قبولها شهادة الواهمين برؤية هلال رمضان هذه السنة إلى استئناسها بإدخال المدينة للشهر فلكيا. ويُشبه هذا أن يكون تناقضا؛ إذ إنها تعتمد هذه الجداول الفلكية أحيانا ولا تعتمدها في أحيان أخرى.
أما السبب الذي يعود إلى المدينة التي نصت المادة الثامنة على تكليفها بوضع جداول فلكية لبداية الأشهر طوال العام فيتعلق بالمعيار الثاني الذي تعتمده في إدخال الشهر. ويشترط هذا المعيار أن يمكث الهلال بعد غروب الشمس ولو لفترة وجيزة، بغض النظر عن درجة ارتفاعه. وتأسيسا على هذا المعيار أدخلت المدينة شهر رمضان هذا العام يوم الأربعاء 11/8/2010م مع أن القمر في أفق مكة المكرمة كان على ارتفاع درجة وربع تقريبا وكانت مدة مكثه إحدى عشرة دقيقة.
ومن البيّن أن رؤية الهلال على هذه الدرجة وبهذا المكث مستحيلة بأية وسيلة. وتجب الإشارة هنا إلى أن هذا المعيار "اعتباري"، ويمكن اعتماده إن اقتصرنا على الحساب الفلكي. لكنه يمثل سببا جوهريا يعترض التنسيق بين المدينة والمحكمة التي توجب الرؤية بالعين المجردة، أو بالمناظير.
ويمكن معالجة هذا السبب بتغيير المدينة هذا المعيار إلى معيار جديد يأخذ إمكان الرؤية في الحسبان. وقد اقترح بعض الباحثين معيارا كهذا (محمد عودة، "معيار جديد لرؤية الأهلة"، بحث منشور في موقع "المشروع الإسلامي لرصد الأهلة"، 2006م، وأبحاث مماثلة في الموقع). واعتمد هذا الباحث على 737 رصدا للهلال قديما وحديثا، واقترح أن يكون الهلال على ارتفاع 6,4 درجة حتى تكون رؤيته ممكنة بالعين المجردة أو بالمناظير.
ومع هذا كله يبقى السبب الحقيقي لاستحالة التنسيق بين المدينة والمحكمة - حتى لو غيرت المدينة هذا المعيار- ذاك هو عدم اعتداد المحكمة (والهيئات الدينية الرسمية في المملكة) بالحسابات الفلكية في هذا الشأن.
ويرى كثير من العلماء الشرعيين المهتمين بهذا الأمر أنه يمكن الحد من الاضطراب في إدخال شهر رمضان خاصة باستخدام الحساب الفلكي لنفي الرؤية لا لإثباتها- أي لعدم قبول شهادة من يشهد برؤية الهلال في ليلة تقول الحسابات الفلكية بعدم وجوده فوق الأفق. لكن المحكمة العليا - والمجلس الأعلى للقضاء قبلها - لم يعملا قط بهذا الحد الأدنى الذي يمكن أن يمنع الشهادات الواهمة.
وربما يُفسَّر امتناع المحكمة عن استخدام الحساب الفلكي للنفي بأنها تشعر أن استخدامه في حال النفي يعني الإقرار بصحته وصحة الاعتماد عليه. وهو ما يترتب عليه أنه لا معنى، بعد هذا الإقرار، لعدم استخدامه في حال الإثبات.
لهذا يقتضي التنسيق بين الجهتين ما يلي:
1ــ ربط طلب المحكمة العليا ترائيَ الهلال بالجداول الفلكية التي تصدرها المدينة.
2ــ تغيير المدينة للمعيار الثاني.
3ــ قبول المحكمة (وهيئة كبار العلماء، قبل ذلك) للاعتماد على الحسابات الفلكية التي تصدرها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية.
أما إن لم يحدث ذلك فسيستمر الاضطراب على الحال التي هو عليها، وهو ما يسهم في استمرار عدم ثقة المسلمين بقرارات المحكمة العليا في المملكة عن الأهلة.
ملحوظتان:
1- استشهدت المحكمة العليا في بيان دخول شهر شوال بالحديث الشريف الذي وردت فيه عبارة "فإن غم عليكم". وهذا احتجاج في غير محله لعدم وجود ما يحجب رؤية الهلال تلك الليلة في بعض مناطق المملكة، لو كان موجودا فوق الأفق وعلى درجة يمكن أن يُرى عندها. أما السبب الذي كان يجب ذكره فهو أنه غاب قبل غروب الشمس! لهذا ينبغي أن تسهم المحكمة الموقرة في تثقيف المسلمين عن طريق الدقة في لغة بياناتها.
2- يبدو أن بعض "الرائين" الواهمين لا يزالون يحاولون تثبيت الانطباع العام عن عبقريتهم، أو حفظ ماء وجوههم! فبدلا من مجازفتهم بالشهادة برؤية الهلال حتى إن غاب قبل غروب الشمس - كما حدث مرارا - صار "أشهرهم!" يدعي أنه رأى الهلال قبل غروب الشمس! وربما يقصد بذلك الادعاء بــ"قوة" بصره، وتثبيت الانطباع بأنه مادام أنه يرى الهلال في وقت تستحيل فيه رؤيته بأية وسيلة فلا معنى للشك في "قدرته" على أن يراه في وقت ممكن - أي بعد غروب الشمس- حتى إن لم يكن موجودا فوق الأفق! لكن هذه الممارسات العبثية لا تغني شيئا، وهي - وحدها - تكفي لنزع الثقة به وبالواهمين من أمثاله.