في الماضي، كان يستخدم بعض الدعاة مصطلح "الغزو الفكري" في خطبهم للتحذير مما هو جديد في المجتمع، خاصةً في مجالات التعليم والإعلام وقضايا المرأة، والمقصود بهذا المفهوم "الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك"!.
فعلى سبيل المثال كان بعض الدعاة يحذّر من قدوم "البث المباشر" والذي يعني "القنوات الفضائية"، فقالوا محذرين عن هذا الخطر القادم "إنَّ الخطَر الكامن في هذا الأمر أنَّ الرجل العادي في أيِّ مكانٍ في العالم النامي سوف يجلس أمامَ الشاشة الصغيرة مغلقة، ويُحوِّل مؤشر الجهاز ليُشاهِد البرامج التي تأتيه عبر المحيطات والبحار والصحاري دُون أيِّ رقابة بما في ذلك الأفلام الخليعة والمنحرفة، والبرامج ذات المضامين المتناقضة مع قِيَم المجتمع الإسلامي وعقائده وأخلاقه وتقاليده".
واليوم نرى هؤلاء الدعاة يظهرون ويشاركون في القنوات الفضائية ويقولون بأن هناك برامج مفيدة وأخرى سيئة، ويجب على الداعية نشر دعوته في كل مكان من خلال الاستفادة من هذه التقنية الحديثة، ومع تسارع وتيرة التطور والتغيير ظهرت شبكة الإنترنت والتي حذروا من مفاسدها، وبدؤوا يستغلون هذه التقنية أيضاً في نشر خطبهم وكتبهم.. فأين ذهبت مخاطر البث المباشر وما هي نتائج الغزو الفكري؟.
اليوم تغير الحال، فتبدل مفهوم "الغزو الفكري" إلى مصطلح جديد وهو "المشروع التغريبي"، لقد تغير المصطلح، ولكن المباني الفكرية للمفهوم لم تتغير على الإطلاق، والغريب في الأمر أن الحجج والمبررات والمخاطر التي يطرحها الدعاة تكاد تكون متشابهة، فهي نفسها التي كانت تقال في الماضي ولكن تحت مسميات ومصطلحات حديثة، ولا أبالغ إن قلت إن مصدر هذه الحجج والمخاطر هي إحدى كتابات الإسلاميين قبل أكثر من ثلاثين عاماً مضت.
لنأخذ أولاً على سبيل المثال قضية المرأة، فقبل مدة ليست ببعيدة خرج علينا ممن يصف نفسه بالباحث الشرعي والتاريخي يصرّح في إحدى المقابلات الفضائية ويقول "إن الإعلام لدينا في السعودية يُمارس ما يمارسه المحتل في المسلسلات والأطروحات.. يُهمّش الحجاب، ويسفّه صاحبته، ويجعله مادة للتندر والضحك"، ثم يستشهد بما فعله مصطفى أتاتورك عند سقوط الخلافة العثمانية عندما جعل زوجته تخلع حجابها أمام الناس.
والكلام السابق قد قيل في الماضي تحت مصطلح "الغزو الفكري" وقبل أكثر من 30 عاماً وبالنص التالي "ليوصف الحجاب بكل شر يمكن أن يرد على الذهن.. ولتبدأ القضية من هنا.. ولتنته حيث يريد الشياطين"، ثم يستشهد الكاتب بقصة "هدى شعراوي" وخلعها للحجاب!.
ثم يتحدث الباحث عن رياضة البنات بالقول "الرياضة النسائية في العالم الإسلامي ابتدأت برياضة في المدارس، وانتهت بدعارة وبتهتك وتفسخ.. هذا ما حصل في الشام ومصر"، وبالمنطق نفسه يتحدث صاحب الكتاب القديم ويقول عن ملابس بنات المدارس في "مصر" تحت تأثير الغزو الفكري ما نصه: "تقصر المريلة قليلاً.. ويقصر الكم قليلاً.. وتتبلد الأعصاب على المنظر المكرور.. وينكشف من المرأة ما أمر الله بستره بنفس المقدار"، ثم يستمر الباحث على هذا المنوال.
في الحقيقة أن الباحث الشرعي وغيره من بعض الدعاة، يعتمدون بشكل أساسي على أفكار الكتاب السابق في شرحه لمخاطر الغزو الفكري، وهم يمشون على الخطى نفسها في شرح مخاطر ما يسمونه بالمشروع التغريبي اليوم في المجتمع.
ولقد نسي أمثال هؤلاء الدعاة أن الناس قد تغيرت، وقد تبدلت المفاهيم والأفكار وانفتح المجتمع على مقولات الحضارة المعاصرة، فيحاولون إبراز أي دعوة تطالب بضرورة احترام المرأة وضمان حريتها وحقوقها على أنها دعوة شيطانية تعمل على تنفيذ مخططات غربية.
فكما رأينا آنفاً كيف يستشهدون بما حصل لحجاب المرأة المسلمة في تركيا ومصر والشام، ومع ذلك فالمرأة في هذه البلدان ترتدي حجاباً يتمثل في ثوب طويل وغطاء أبيض للرأس والرقبة، ويتفق كثير من علماء المسلمين على مشروعية هذا الشكل من الحجاب، كما نرى هذا الزي أيضاً في البلاد الإسلامية الأخرى كماليزيا وإندونيسيا، ولم يمنع ذلك المرأة من ممارسة أي دور حيوي في المجتمع مع المحافظة على العفة والطهارة والأخلاق والقيام بواجبات الأسرة، فأين هي الدعارة والانحراف الأخلاقي؟.
كما أن العديد من أفراد المجتمع ومنهم الدعاة أنفسهم سافروا إلى الغرب وشاهدوا كيف تشارك المرأة الرجل في بناء المجتمع مع الحفاظ على كرامتها وإنسانيتها، فهي تعمل في المستشفى والجامعة وتتقلد المناصب العليا في السلم الإداري والوزاري، فلماذا يغمض الدعاة أعينهم عن هذه الإيجابيات ويحاولون تزييف الحقائق من خلال التركيز فقط على الجوانب السلبية في الحضارة الغربية؟.
للأسف الشديد، بعد انفتاح المجتمع على العالم المعاصر، وظهور مشاكل اجتماعية جديدة بدأ الناس يعيشون في انفصام وعدم انسجام بين العادات والتقاليد والمبادئ الدينية التي يفهمونها وبين مقاييس ومعايير الحياة الحديثة، فعجز الفقه التقليدي عن إيجاد حلول تعالج مشاكل المرأة والأسرة وفق مستجدات الواقع، فذهب الفقهاء والدعاة يتمسكون بأيديولوجيات واهمة لتغطية هذا العجز، فبدؤوا يطرحون حلولا خيالية ومثالية لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
فهم يتحدثون على سبيل المثال عن مساوئ الاختلاط في المستشفيات، ويقترحون أن تكون هناك مستشفيات نسائية كاملة في ظل ندرة أو قلة التخصصات الطبية والتمريضية في القطاع الصحي بشكل عام!، وعندما تطرح الحلول الواقعية للتقليل من سلبيات الاختلاط مثل سن قوانين لمكافحة التحرش الجنسي، فإنهم يرفضون مثل هذه القوانين بحجة أنها ذريعة للسماح بالزنا في المجتمع، وبالتالي فإن مثل هذه العقلية تتعامل مع الواقع بلغة التعالي والأوهام الأيديولوجية بلا وعي أو مرونة، فتدخل المرأة في أجواء القهر والظلم والتخلف.