بعد انتقالي للعمل في جدة قبل عامين كان ثاني شخص التقيته داخل العمل هو "أحمد" الفلسطيني الجنسية، شاب في العشرينيات من عمره، ورغم أنه من مواليد الرياض ولا يعرف مكان غير السعودية إلا أنك تشعر وأنت تتحدث معه أنه للتو قدم من فلسطين، سحنته ومشاعره ولهجته كلها تشير نحو مزارع غزة وشوارع الخليل وأزقة حيفا وأريحا وهيبة المسجد الأقصى، يتحدث أحمد عن كل شيء إلا عن فلسطين وفي داخلي عتاب خفي، كيف له أن يتحدث في كل مناسبة عن ناديه المفضل "يوفنتوس" الإيطالي، ويعرف تاريخه بالكامل ويحفظ أسماء لاعبيه ما تقدم منهم وما تأخر ويتجاهل الحديث عن جراح غزة وعدوان المستوطن الصهيوني، وهوان المسلمين والعرب في نصرة القضية الفلسطينية، كيف له أن يهتم بالتفاصيل الدقيقة للأحداث التي تحدث في عملنا ويتعمق فيها ويسترسل لساعات يتحدث عنها ويتهرب من كل طريق يحمله نحو فلسطين، هل لأنه لم يزرها يوما ما لم تعد تعنيه؟ فأنقاد نحو سؤال آخر أطرحه على ذاتي ولكننا معظم المسلمين والعرب لم تعد فلسطين في متناول رحلاتنا وسفرنا بعد أن استوطنها اليهود وحاصروا منافذها وقننوا مخارجها حتى أصبح أهل فلسطين لا يبرحون أرضهم ولا يعودون لها إلا بمشقة وإجراءات عسيرة ولكننا رغم ذلك نحملها في صدورنا وننحاز لها وهي ملفنا الأول والأخير وإن طال الزمن وتقادم تاريخ الاحتلال.
وأنا أتابع مقطع فيديو يعرض مشهداً من كاميرا خفية كان مسرح أحداثها في مزرعة بغزة وأبطالها شابين فلسطينيين تنكروا بزي اليهود وقلنسواتهم وطريقتهم في تضفير الشعر فتذكرت أحمد، وعاهدت نفسي أن أخبره عن هذا المشهد الذي بدأ بدخول شابين متنكرين على هيئة المستوطنين اليهود ويجران خلفهما كلب إلى مزرعة في غزة يعمل فيها رجل مسن وقد غزا الشيب رأسه، بادروه بإلقاء تحية المساء بلكنة مكسرة "مساء الكير" تفاجأ بهم وسألهم من الذي سمح لكم بدخول غزة؟، وتجاهلا سؤاله وذهبا يغريانه بشراء مزرعته ودون تردد طردهم وأخبرهم بأن أموال الدنيا كلها لن تمكنهم من الظفر بحفنة واحدة من تراب أرضه، وتناوبا عليه يحاولان إغراءه وعندما باءت بالفشل محاولاتهم وهمَّ بطردهما هدداه بقصف مزرعته بالصواريخ والقنابل فوقف بشموخ وقال لهم بلهجته الفلسطينية: "تهديدكم ما بيخوفني إحنا بذور صواريخكن بتدفنا تحت الأرض ونطلع لكن أشجار حية من جديد"، حينها لم يستطع الشابان المتنكران بزي اليهود من إكمال التمثيل فقاما بقشع هيئتهما اليهودية حتى استويا فلسطينيين أمامه وذهبا يبتسمان له ويشيران نحو الكاميرا الخفية، وقاما يعانقانه بحرارة وبكاء ويقولان له هذا هو هدفنا من هذه الكاميرا الخفية أن نخبر العالم كيف أن الفلسطيني يقاوم الاستيطان ويحاربه ويدفع روحه ثمنا لقضيته ووطنه.
حينما أنهيت سرد القصة على صديقي أحمد وجدته وقد طفقت عيناه بالدموع، وهو الذي عشت معه عامين بأكملهما لم يتحدث ولو مرة واحدة عنها، وذهب يخبرني عن فلسطين وعن أرض أجداده وكأنه يعوضني عن صمته منذ عرفته عن هذه القضية، أخبرني عن مكانها في روحه وعن تاريخها وصمودها وحروبها ومقاومتها وشهدائها وأبطالها وأخيرا ابتسم بحزن وقال: "فلسطين هي حلمي الكبير".
غزة التي ترزح تحت وطأة الاعتداء، هي جرح كبير في جسد العرب لا ينكأ وغير قابل لذلك لأنه لم يندمل بعد، ومخطئ جداً من يعتقد أن انشغالنا بقضايا أخرى هو تجاهل لفلسطين، انشغل أحمد حتى كدت أعتقد أنه نسي بلده ولكنه علمني درسا بأن فلسطين ليست في الكلام بل في أرواحنا ودموعنا ودمائنا. إن الحرب الباردة التي يشنها المحتلون للأراضي الفلسطينية هي أخطر بكثير من صواريخهم التي تقصف بها بيوت الآمنين، وسعيهم عبر كل تلك السنين لهدم الاقتصاد الفلسطيني، وهدم البنية التحتية وإضعافها ومحاصرة منافذها ومحاولة الحد من ثقافتها ومستوى تعليمها هو ما أوصلنا الآن لفلسطين الغير متكافئة في القوة مع المستوطن اليهودي، فنطالبها بعدم إثارة الحروب ومحاولة الوصول إلى هدنة حفاظا على أرواح الأطفال والنساء التي لا تفرق صواريخ العدو بينهم وبين المقاومين الأبطال للاحتلال.
إن وصول فلسطين لهذه المرحلة هو نتاج سنين من الحرب الباردة التي لا يلتفت لها إعلامنا العربي إلا على استحياء. إن الخطر الحقيقي ليس ما يحوم في سماء غزة الآن، ولكنه في الطريق الطويل الذي أوصل فلسطين إلى مرحلة عدم التكافؤ في المقاومة والتي لو كانت تملك من القوة الاقتصادية والعسكرية ما ترد به على المعتدين لما تجرأ المحتل على إرسال طائرات وصواريخ تسلب أرواح الأطفال من بين أحضان أمهاتهم.
المسجد الأقصى وغزة والخليل وبيت لحم وحيفا ورام الله وكل فلسطين، هي الجرح الكبير الذي لن يندمل والتي من شدة حبنا لها نحاول أن نخفيها في أرواحنا، ولكنها وإن طال بنا الصمت عنها كما طال الصمت بزميلي أحمد هي قضيتنا التي لم ولن ننساها.