نشرت (مجلة فلوريدا اليهودية) مطلع الشهر مقالة للحَبْر اليهودي (بروس وارشال) دافع فيها بشدة عن حق المسلمين في بناء مسجدهم في (غراوند زيرو)، وانتقد بلغة حادة كلاً من اليمين المسيحي واللوبي الصهيوني في مساعيهم لمنع المسلمين من ممارسة حقهم الوطنيّ في بناء المسجد. نُشرت هذه المقالة التي عنونها الحَبْر وارشال بـعنوانٍ ملتهب (عارٌ على أمريكا واليهود..) في نفس الولاية التي أطلق منها القس المسيحي (تيري جونز) تهديداته بحرق القرآن إذا قام المسلمون ببناء المسجد، ولكنه تراجع عنها مؤخراً بعد ضغوط مختلفة من جهات عدة كان أطرفها من إطفائية مدينة جانزفيل التي رفضت منحه تصريحاً بإشعال حريق!

ولايةٌ واحدة جمعت بين نقيضين، وثلاثة أديان. قسٌ يهدد المسلمين وحَبْرٌ يدافع عنهم. ولكن الإعلام تجاوز مقالة الحبر وارشال برغم حدتها وقوة حجتها، ولم يسلّط عليها ما تستحقّه من ضوء على الرغم مما ورد فيها من تفنيد مفصّل لدعوى المعارضة، وهجوم عنيف على واحدة من أشرس الجهات المعنية بمعاداة السامية (رابطة مكافحة التشهير) (The Anti-Defamation League)، واختار أن يسلّط الضوء على قسٍ مغمور لا يتبع كنيسته أكثر من خمسين شخصا حول العالم، وتعجز كنيسته عن تسديد قرض بمائة وأربعين ألف دولار للبنك، ويحاول أن يصنع فرقعة إعلامية مصطنعة تساعده في ترويج الكتاب الذي يحلم بإصداره قريباً بعد أن أعيته الحيلة في نشره، فاضطر لتصويره وتجليده وتوزيعه بنفسه.

هذا مشهد غير مستغرب. فحظوظ مقالة الحبر وارشال الإعلامية منخفضة لأنه أعلن موقفه على شكل مقالة رصينة وهادفة، بينما أعلن القس جونز موقفه على شكل تهديد أرعن وبدائي.

بدأ الحبر وارشال مقالته بتوضيح مهم بأنَّ المشروع المقصود ليس مسجداً فحسب، بل مركز اجتماعي من ثلاثة عشر طابقاً، يحوي حوض سباحة، وصالة للفنون، وقاعة رياضية، ومدرسة للطبخ، بالإضافة إلى مسجد. والفارق بين المشروعين كبير. فلو كان مسجداً فقط فهذا يعني أنه مشروعٌ قائم على خدمة المسلمين وحدهم، ومن الصعب أن يوجد تحت سقفه متسعٌ لأنشطة تناسب غير المسلمين إلا في حدود ضيقة. وهنا تصبح فكرة إقامته في تلك المنطقة الحرجة غير نافعة من حيث أنه سيكون من الصعب على القائمين عليه قطف الثمرة المرجوة، وتلطيف الأجواء المسمومة، وتفادي الصدامات العنيفة عند كل ذكرى سنوية للأحداث. أمّا المركز الاجتماعي فيفتح ذراعين واسعتين للترحيب بالجميع لممارسة الرياضة وتذوق الفن وتعلم الطبخ تحت مظلة ثقافية إسلامية غير ملزمة، ولا طاردة للآخر المختلف. وبالتالي تكون الرسالة الموجهة للآخر مختلفة تماماً من حيث إنه مركز اجتماعي، إسلامي الهوية، يكرّس نفسه لخدمة المجتمع الأمريكي من ذات المنطقة التي تعرّض فيها الوجدان الأمريكي للجرح الأعمق، ويؤكد أن مسلمي أمريكا لا يقلّون ولاءً لوطنهم وحباً لمجتمعهم عن بقية الأمريكيين من أتباع الأديان الأخرى.

كذلك فنّد الحبر وارشال الادعاءات المعارضة للاسم المقترح للمركز (بيت قرطبة) بأنه يرمز للاحتلال الإسلامي لإسبانيا، وأكّد أن المقصود من اختيار هذا الاسم تحديداً هو عكس ذلك تماماً. فقرطبة كانت حاضرةً إسلامية تتمتع فيها الأديان الثلاثة بمجال واسع من الحرية والاحترام المتبادل في مشهد حضاري لم يتكرر في أي حاضرة إسلامية أخرى في ذلك الزمان على امتداد وتتابع الخلافات الإسلامية. وهو اسمٌ يليق بنيويورك، المدينة الأمريكية الأكثر تنوعاً، والتي لا يكاد يوجد دينٌ على وجه الأرض إلا وله أتباعٌ فيها يمارسون عبادتهم بحرية ودون قيود.

دفاع الحبر وارشال عن المسجد تعدّى الحقوق الدستورية للأمريكيين المسلمين، وبلغ حد تفنيد الاتهامات الشخصية التي طالت الإمام فيصل عبدالرؤوف، صاحب فكرة المركز الإسلامي، والذي اتهمه المعارضون بكونه داعماً للإرهاب رغم انتمائه للمذهب الصوفيّ الذي ينزع للسلم وينبذ العنف دون أن يجد المعارضون من ينبههم إلى أن المنهج الذي يتبعه عدوهم المخيف (أسامة بن لادن) يعدّ أمثال فيصل عبدالرؤوف إما كفرة مارقين، أو في أفضل الأحوال زنادقة ضالين. وهذا ما ذكره الكاتب الشهير فؤاد زكريا، كما اقتبسته المقالة، بأن أفكار فيصل عبدالرؤوف حول التسامح والتعايش تعد بالنسبة لأسامة بن لادن وأتباعه كابوساً مخيفاً.

أما القس كيفن ماديجان، وهو قس أقدم كنيسة كاثوليكية في نيويورك، فقد طالب المسلمين علناً بألا يتنازلوا عن حقهم في بناء المسجد في ذلك المكان تحديداً، لأنه لا توجد أسباب كافية تدعوهم للتنازل. بل إنه قال إن حقهم في بناء المسجد هو حق دستوري أصيل لا يمكن نزعه منهم حتى بالتصويت الديموقراطي. وقد شاركه هذا الموقف عبر المحيط الكاتب الجدليّ سلمان رشدي الذي سجّل موقفه أيضاً بدعم بناء المسجد، وإدانته الشديدة لدعوى القس جونز بحرق القرآن. نفس الكاتب الذي ذاق مرارة التشدد الإسلامي المتمثل في إهدار الدم، في حكمٍ غوغائي يليق بالقرون الوسطى، يرفض حرق القرآن بشدة، ويدافع عن حق المسلمين في العبادة حيث شاؤوا. وقد تجاوز الإعلام مرة أخرى موقفه هذا في دليل آخر على كون المواقف المتسامحة لا تثير شهية الإعلام وهي تسافر في تصريحات أصحابها مثل موسيقى هادئة، بقدر ما تثيرها تلك المواقف المتطرفة التي تقرع في أنحاء العالم مثل طبول الحرب.

إن إعادة تأمّل المشهد تعيننا على إعادة تصنيف الأطراف المتصارعة بشكل يجعل الصورة أكثر وضوحاً. الحبر اليهودي بروس وارشال، والقس الكاثوليكي كيفن ماديجان، والإمام المسلم فيصل عبدالرؤوف، والكاتب الملحد سلمان رشدي في طرف واحد يجمعون معاً على حق المسلمين في بناء مسجدهم، لأنه يعكس قيم الحضارة والتعايش السلمي بين الأديان. وفي الطرف الآخر نجد يهوداً ومسيحيين ومسلمين لا تزيدهم قضية المسجد إلا تشبثاً بمواقف التشدد والانغلاق والأحادية والتعالي وتقاذف التهم واحتكار الحقيقة ورفض الآخر. تصنيفٌ يبرئ الأديان من تهمة التحريض بما أن أتباعها سجلوا مواقف متعاكسة، ويدين الأجندات الآيديولوجية التي تعمي وتصمّ، وتحولنا إلى أدواتٍ مجردة تسعى إلى تحقيق ذواتها عن طريق ابتذال ذوات الآخرين.