في 28 يونيو الماضي أحيا العالم ذكرى مرور 100 عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أطلقت شرارتها حادثة اغتيال ولي العهد النمساوي وزوجته بصربيا في 1914، وربما يمثل إحياء هذه الذكرى فرصة للعالم لاستذكار الظروف والمسببات التي قادت إلى هذه الحرب والحرب العالمية الثانية التي لم تكن سوى امتداد لها. اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند كان الشرارة التي أشعلت وضعا ملتهبا في القارة الأوروبية بدأ منذ مطلع القرن مع بروز عدة قوى صاعدة وتحول النظام العالمي لعالم متعدد الأقطاب تتوازن فيه قوى الإمبراطوريات وأطماعها الاقتصادية وتحدياتها الجيو-سياسية. ومع مئوية هذه الحرب يعود العالم اليوم لوضع دولي مشابه إلى حد كبير لوضع النظام العالمي مطلع القرن الماضي، بل وتمكن ملاحظة تجدد ذات الأنماط التي قادت لإشعال الحرب العالمية مرة أخرى اليوم مع اختلاف الشكل. ويرى كثير من المؤرخين أن العالم في ذلك الحين كان محكوما بنشوب حرب عالمية سواء تم اغتيال ولي العهد النمساوي أم لا.
توجد في حقل العلاقات الدولية نظرية تعرف بدورة جورج مودلسكي الطويلة (Modelski’s Long Cycle Theory)، تنص على أن الحروب العالمية تتم بشكل دوري نتيجة بنية النظام الدولي وتتابع صعود وانحدار القوى فيه، واللافت في هذه النظرية أنها ترى أن هذه الدورة تتم كل 100 عام تقريبا منذ عام 1494، مع صعود البرتغال كقوة عالمية مهيمنة. وتنطلق نظرية مودلسكي من نظرية انتقال القوة لأبرامو أورجانسكي (Organski’s Power Transition Theory) التي تنص على أن الصراعات والحروب تحدث مع انتقال القوة وإعادة توزيعها بين الدول؛ أي أن العالم يمر بدورة طويلة من عملية انتقال القوة من دولة لأخرى، وهو ما يتسبب مع نهاية الدورة في نشوب حروب بسبب الفراغ وعدم وجود دولة مهيمنة (Hegemon) في النظام العالمي.
قد يبدو من المستبعد اليوم أن نتوقع نشوب حرب عالمية مثل التي شهدها مطلع القرن الماضي، لكن تجدر الإشارة إلى أن الحرب العالمية الأولى نفسها لم يكن معاصروها يتوقعونها، فما بدا في حينه حربا إقليمية صغيرة بين إمبراطورية النمسا وصربيا تحول بسرعة إلى حرب عالمية نتيجة اصطفاف التحالفات الدولية خلف كل طرف. وإن التطورات الأخيرة وخاصة ما يحدث في سورية كشف إلى حد كبير مدى عجز الصيغة الحالية للنظام الدولي ممثلا في الأمم المتحدة في القيام بواجبها الأساس. في واقع الأمر يبدو العالم اليوم أقرب كثيرا لما كان عليه مطلع القرن الماضي، ولعل أبرز نقاط التشابه تقع في ثلاثة أنماط رئيسة:
أولاـ الصعود الاقتصادي لعدة دول: مع مطلع القرن العشرين بدأ العديد من الدول في الصعود الاقتصادي السريع؛ فاليابان على سبيل المثال ارتفعت صادراتها من لا شيء في عام 1850 إلى 200 مليون دولار عام 1900. ألمانيا حققت قفزة اقتصادية جعلتها تتجاوز بريطانيا التي كانت القوة المهيمنة عالميا في حينه، في عام 1870 كان الناتج القومي البريطاني أكبر بنسبة 40? من نظيره الألماني، وفي عام 1913 أصبح الناتج القومي الألماني أكبر بنسبة 6? من نظيره البريطاني. مع مطلع القرن العشرين صعدت دول كألمانيا والولايات المتحدة واليابان وروسيا، لتصبح إلى جانب بريطانيا وفرنسا قوى اقتصادية عالمية مستعدة للمنافسة.
ثانياـ نقاط تشابك جيوسياسية: مع مطلع القرن الماضي كانت بريطانيا تنتج 30? من احتياجها الغذائي والصناعي من مواد خام، وتستورد الباقي من مستعمراتها في الشرق، لذلك سمي الخط المائي الذي يربط بريطانيا بالهند عبر قناة السويس "بخط الحياة" (Lifeline)، وكان الأمن القومي البريطاني يعتمد على بقاء الخط آمنا، في المقابل كانت ألمانيا وروسيا تعانيان من عدم وجود منافذ مائية لهما على بحار دافئة؛ هذا الأمر جعل من منطقة البلقان المطلة على البحر المتوسط نقطة تشابك استراتيجي بين ألمانيا وروسيا، وتهديدا لبريطانيا وفرنسا حال تمكن ألمانيا من السيطرة على تلك المنطقة.
ثالثاـ نشوء فراغ إقليمي دافع للصراع: عقب الحرب التركية ـ الروسية ومؤتمر برلين عام 1878، بدا ضعف الإمبراطورية العثمانية في منطقة البلقان واضحا، وأطلق عليها: "رجل أوروبا المريض". الفراغ الإقليمي الذي نشأ في منطقة البلقان دفع الإمبراطورية النمساوية (حليفة ألمانيا) إلى احتلال البوسنة والهرسك عقب مؤتمر برلين ثم ضمها للإمبراطورية عام 1908، وهو ما فاقم من حدة التشابك الاستراتيجي بين الإمبراطوريات في حينه، نتيجة الفراغ الذي سعى الكل لملئه في البلقان والحصول على كعكته بعد خروج العثمانيين.
الحرب العالمية الأولى بدأت في واقع الأمر قبل عام 1914 بكثير، فمع مطلع القرن الماضي ومسرح العلاقات الدولية كان مهيأ لنشوب صراع، واليوم يتجه العالم نحو مسرح أحداث مشابه مع صعود عدة قوى اقتصادية كالصين والهند إلى جانب القوى القائمة، إضافة لبروز نقاط تشابك رئيسة بين عدة قوى على امتداد خط التجارة المائي من الشرق إلى الغرب عبر المحيط الهندي، لكن النقطة الأهم هي الفراغ الإقليمي الذي ينشأ اليوم في الشرق الأوسط نتيجة انسحاب الولايات المتحدة منه، التي أصبحت "رجل الشرق الأوسط المريض". الفراغ الإقليمي الناشئ في منطقتنا اليوم بدأت آثاره بالظهور في سورية والعراق وفي تحركات إيران في المنطقة، وسوف تزداد مؤثراته ما لم يتم ملء هذا الفراغ، وللأسف، فإن كل دروس التاريخ تنبئنا بأن مثل هذا الفراغ لا يتم ملؤه إلا بصراع، سواء كانت حربا إقليمية محكومة أم حربا إقليمية تشعل شرارتها صراعا عالميا أكبر.
إن العالم متعدد الأقطاب يعد عالما خطرا للغاية نظرا لهوامش حرية الفعل السياسي الكبيرة للدول، ونظرا لطبيعة هذا العالم القائم على توازنات قوة وتحالفات بين أنداد، فعالم متعدد الأقطاب يجعل النظام العالمي أكثر هشاشة نظرا لسهولة وسرعة التقلب فيه (Volatility) وإمكانية اشتعال الحروب بسهولة. إن الخطر الذي يطرحه عالم متعدد الأقطاب آخذ في التشكل في ظل فراغ إقليمي ينشأ في منطقتنا يطرح بدوره أهمية التنبه لمسألتين:
أولا: أن هذا الفراغ يجب أن تملأه دول المنطقة بنفسها بشكل قوي يصد أي طموح من خارجها لملئه سواء بشكل مباشر أو عن طريق دفع دول المنطقة للصراع، وهو أمر بدأ للأسف بالحدوث خاصة مع أوضاع العراق الأخيرة. إن إيجاد رؤية سياسية متكاملة للمنطقة يكون نابعا من داخلها بات أمرا مهما، وما لم يتمكن تحالف إقليمي من فرض هيمنته عليها، فإن المنطقة مهيأة لمزيد من الصراع الذي قد يجر الآخرين إليه.
ثانيا: أن جنوح العالم متعدد الأقطاب سابقا نحو الحروب كان بسبب غياب أي آلية في النظام الدولي تعدل موازين القوى دون حروب، وهو الدور المفترض من الأمم المتحدة أن تلعبه إذا أريد لها أن تكون إنجازا بشريا كبيرا في مجال السلام. هذا الأمر يطرح أهمية أن يكون إصلاح منظومة الأمم المتحدة على رأس أولويات دول المنطقة كي يتمكن النظام العالمي من معالجة الأزمات الناشئة عن تشكل العالم متعدد الأقطاب اليوم. ولعل فشل مجلس الأمن في معالجة أزمة سورية على مدى ثلاثة أعوام أبلغ دليل.