في الأيام السابقة للسفر إلى مدينة إسطنبول، كنت منهمكاً بتحضير المادة العلمية للدورة التي تم اختياري لها مشاركة مع زميلين من فرنسا وآخر من تركيا، كان عليّ القيام بمراجعة دقيقة للنشرات العلمية التي نشرت هذا العام وتحضير لقطات مختصرة لأحداث جراحية حرجة أو نادرة للعديد من العمليات التي أجريناها وتستحق العرض والمناقشة.

كنا مع الطاقم الطبي المساعد في سباق مع الزمن لعمل المونتاج وتجهيز powerpoint المحاضرات.

حال وصولنا إلى مطار إسطنبول، كان في انتظاري رجل لطيف مع سائق كلف باستقبالي وتوصيلي إلى الفندق، وقام بعد ذلك بشرح خطة العمل ومواعيد التنقلات في اليوم التالي. تحدث هذا الرجل عن تركيا الحديثة القوية باقتصادها رغم تذمره الواضح من بقاء إردوغان في الحكم هذا الوقت الطويل دون أن يظهر على الساحة من يستطيع أن يخلفه.

حين وصلنا إلى جامعة "اجي باديم" فوجئنا بالإمكانيات الهائلة والمختبرات وغرفة العمليات التي خصصت للتدريب من خلال أجهزة متقدمة وبتقنية عالية.

كان عدد الأطباء 28 جراحاً من تركيا، وإيران، وروسيا، ولبنان، والأردن، ومصر، وليبيا، والسعودية.

حين تستعرض أسماء هذه الدول، بإمكانك أن تعقد قمة مصغرة لدول تعيش أو تصنع أحداث ما يسمى بالربيع العربي! حدث هذا في الاستراحة وفي العشاء الرسمي الذي أُعد للجميع. كان الأشقاء في ليبيا أكثرنا مرحاً وسخرية.

قال لي أحدهم: صحيح أن زمن القذافي ولى إلى غير رجعة (وهي جملة طالما رددها القذافي نفسه) إلا أننا مازلنا نعيش على إرهاصات الماضي، القذافي لم يعمر شيئاً في ليبيا، وكان حريصا أثناء حكمه أن يذكرنا في كل محفل أن لا بديل له، ومن أمثلة ذلك الخيمة التي يصطحبها أينما يرحل، فهي تبنى على عمود واحد مهما كان حجمها ويقول بقهقهة: إن مصير هذه الخيمة معلق بهذا العمود! وهذا ما حدث على الأقل حتى الآن حين سقط العمود الوحيد!

أما الإخوة في إيران، فملاحظتي عليهم هي الاحترام الشديد والأدب الجم الذي أظهروه تجاه المحاضرين. همس لي أحدهم مشيراً إلى صورة أتاتورك التي تزين جدار المطعم، إن هذا الرجل في القرن الماضي هو من صنع تركيا التي تراها الآن، في الوقت نفسه الذي كان صديقه شاه إيران رضا بهلوي (والد محمد رضا آخر ملوك إيران) يقوم بالعمل نفسه. لقد كانا يتنافسان على التنمية، وصلت إيران إلى أوج نهضتها في الخمسينات؛ من بناء للبنية التحتية والتعليم والاقتصاد حتى قضى على هذه النهضة عصر الملالي في الثورة التي أسقطت النظام.

أما الإخوة من بقية الأقطار، فكانت أحاديثهم وآراؤهم منقسمة حول أحداث الساعة التي لا تخفى على المتابع.

هولاء الأطباء من كل البلدان، وإن اختلفوا في آرائهم السياسية، إلا أن الجانب الإنساني عال جداً لديهم، تجدهم يرفضون بوضوح كل مظاهر العنف والقتل والتهجير، ويرون أن المخرج من هذا الاحتقان مسؤولية الساسة بجميع منابرهم الإعلامية وتحالفاتهم الإقليمية والدولية.