المسرح كطائر "الفينيكس"، ذلك الطائر الأسطوري عند الإغريق، الذي عندما يشيخ يحترق ثم ينبعث شابا ألقا من تحت الرماد. ذلك هو المسرح الذي أبدا لا يشيخ! يحتضن بحضنه من أحبه ويطرد من ساحته من تعامل معه باستخفاف أو استسهال!
إن من الغريب وبعد مرور ما يقرب من عشرين عاما، أن أجد ملامح مدرسة صعاليك المسرح وقد تزركشت بها العروض المسرحية الشابة بين شباب المسرح المبدعين الجدد! فالمسرح يختزن بداخله كل تجاربه وكل خط يسطر في جداره، ونحن من يستهين بتجاربه ونمرر إبداعات شبابنا مرور الكرام وهذا ما حدث مع فرقة صعاليك المسرح، التي أبهرت الجماهير إبان ظهورها وكانت تحصد كل الجوائز في جل المهرجانات آنذاك. ثم تفرقت الفرقة وكونت فروعا لها في السويس والإسكندرية وحلوان وكثير من مدن الجمهورية، وكل فرقة لها مخرج قد نما وكبر داخل فرقته الأصلية.
فرقة الصعاليك تكونت بشكل عجيب وذلك عندما تخرجنا من الأكاديمية عام 1991 تطوع لنا المخرج الكبير "علي بدر خان" بأن يجعل الدور الأول من الفيلا الخاصة به لتكوين فرقة صعاليك المسرح بقيادة المخرج أشرف عزب، وقد كان النص المختار آنذاك هو "ما زالت اللعبة مستمرة". واستمرت البروفات إلى ما يقرب من الستة أشهر، في تدريب الممثلين وفي ترويض الجسد فيما يتلاءم مع ملامح هذه المدرسة، ولم يكن لها أي مورد لتمويلها، ولذا قامت بالجهود الذاتية.
وكان من بين هؤلاء المتدربين النجم الشهير أحمد عيد، والفنانة أمينة سالم، والمخرج الشهير أسامة العاصي، والمخرج الشهير علي رجب، والممثل الشهير ماهر عصام طفلا، والنجم الشهير أحمد زاهر، والفنان محمد العدل، والفنان هشام السنباطي، والفنان محمد يونس، والفنان وليد رشاد، والمخرج أحمد صبري، وأنا، وعدد كثير من المتدربين.
لم يكن هؤلاء النجوم نجوما أو مشاهير آنذاك، وإنما كانوا دارسين أحبوا المسرح بعد التخرج، وأعطوه كل الحب فأعطاهم كما أعطوه، وأحبهم كما أحبوه، فأصبحوا نجوما مشاهير بقدر حبهم للمسرح، لم يكل المخرج أشرف عزب ولم يمل من تكريس كل جهده وبدون مقابل حتى أن الدكتور مصطفى يوسف قد لقبه بـ(عزبوف المسرح).
توالت العروض للفرقة فقدموا عروضا منها "ما زالت اللعبة مستمرة" من تأليف الدكتور مصطفى يوسف منصور، وفيها يتم الاعتماد على تشظي الشخصيات وانشطارها واستخدام جسد الممثل في صنع الديكورات البشرية والموسيقى الحيوية من خلال صوت الممثل. وعرض "فوتوكوبيا" من تأليف أحمد عيد وفيه يتم الاعتماد على تقديم لوحات متصلة منفصلة، واستغلال جسد الممثل في صنع الديكورات وعمل الموسيقى الحية مع وجود التكوينات الحركية المختلفة في التشكيل للتعبير عن وحدة الموضوع. ثم عرض "المسخ" وهو من تأليفي وفيه يتم التعامل من خلال أربع جهات رؤية إذ يحيط الجمهور الممثلين من كافة الجهات مع العلم أنه ليس مسرح (أرينه) وأيضا استغلال جسد الممثل في التعبير عن المنظر المسرحي وعمل تكوينات حركية تبدأ من الدائرة وتنتهي بها، وهي الدائرة المتكررة في جميع عروض الفرقة والتي تعبر عن رمزية الوردة التي تتفتح في ظل القهر، ثم عرض "الواد غراب والقمر" وهو من تأليف أشرف عزب وفيه يتم الاعتماد على الكورس في عمل التشكيلات الحركية بدأ من الدائرة التي تمثل القمر والذي يتفتت ليصبح في شكل وشاح على ظهر الممثل. وهذه الدائرة المرتبطة بعروض الفرقة هي أيضا تلك الدائرة في "عرض القدر" تأليف أشرف عزب إلا أنها في هذه المرة تعبر عن الشمس من خلال التصاق أصابع الممثلين ببعضها البعض. أما في عرض "الاسم عربي" من تأليفي فهذه الدائرة تمثل الساعة كناية عن الزمن.
ولكن بعدما أصبح لأعضاء الفرقة شأن كبير في الفن والسينما والتلفزيون تفرقوا جميعهم وبقي اسم الفرقة (فرقة صعاليك المسرح)، وحينها لم يخطر ببالي أنني حينما تم اختياري بأن أكون عضوا في لجان التحكيم في مهرجان آفاق المسرحية هذه الأيام، أنني سأفاجأ بمعالم هذه المدرسة التي انتشرت وأصبحت منهجا ينتشر بين الشباب دون أن يعرفوا مصدره، فأيقنت بأن المسرح ساحر كبير، لا يدع فن من أحبه أن يندثر في غمرات الزمن، بل يسجله في دفاتره لكي يكون حيًّا ما دام المسرح.
ومن ملامح هذه المدرسة:
* الاعتماد على التشكيل الحركي في التعبير بمعنى امتزاج التشكيلات الحركية لتعطي تكوينات متتابعة تتوالد من نفسها وتتفجر عبر سلسلة متشابكة ببعضها البعض، معتمدة على وحدة الجسد أو الجذر العضوي لأن الجسد هو القاسم المشترك للجنس البشري.
* تتخذ موضوعات الغريزة والعادات الشعبية موضوعاً أساسيا في الدراما يستلهم منه المبدع حكاياته وموضوعاته، إذ إنه يتأثر بها ويؤثر بالمتلقي.
* الاعتماد على الممثل والممثل فقط، كأداة أساسية للتعبير وتجريد باقي عناصر العرض، فالممثل هو الأصل في العملية المسرحية.
* حيادية اللون في الديكور والملابس وباقي أدوات العرض.
* استخدام المفاصل عند الممثل في الحركة وهو من تكنيك (البيوميكانيك).
وبهذا تميزت الفرقة بأدواتها وعلاماتها، حيث أصبح على المشاهد أن يدرك بأن هذا العرض أو ذلك يتبع مدرسة صعاليك المسرح.
ولهذا نستطيع القول إن من يخلص للمسرح فإن المسرح والفن عامة يخلصان له ويعطيانه كل ما في جعبتهما. فها هم أعضاء فرقة صعاليك المسرح قد أصبحوا نجوما لامعة في سماء الفن والمسرح، وإن ابتعدوا عن المسرح فإن المسرح لم يبتعد عنهم ولم ينكر لهم جميلهم؛ فظل يحتفظ لهم بسمات فنهم حتى تكونت لهم مدرسة من مدارس الفن المسرحي.