صدق من قال "الدين أفيون الشعوب". ولنا هنا مجازية العبارة ودلالاتها. فمن أراد أن يتأكد من حكمة قائلها "لينين" وبعد نظره وأهمية رؤيته المختزلة ببراعة، ما عليه سوى أن يطلّ قليلاً على خشبة المسرح الراهن في منطقة الشرق الأوسط والعراق والشام تحديداً.
الحادث الإرهابي الإجرامي الذي طال جهاز المباحث العامة والأمن، صباح السبت الماضي في منفذ الوديعة في نجران، مثله مثل أي حادث إرهابيّ سابق، بعده ستمتلئ الفضائيات والصحف والإذاعات والإنترنت بردود الفعل، كما هي عادة إعلامنا بعد كل جولة للإرهاب. علماء ومشائخ ومفكرون وكتاب ومثقفون ومواطنون فاضت وستفيض بهم وسائل الإعلام باستنكارهم وشجبهم وتنديدهم بما حدث في شرورة، مثلما شجبوا واستنكروا ونددوا بما حدث من قبل في العليا وفي الإدارة العامة للمرور وغيرها. نعم هكذا نحن، مع الأسف، في كل مرة نتكلم للاستهلاك فيما الواقع يسخر منا ويضحك على عشوائيتنا.
قلتُ من قبل إنه كي ننجح في الحرب على الإرهاب والقضاء عليه تماماً ينبغي أن تتحد الجهود الفكرية مع الجهود الأمنية وتسيران معاً بتناغم وانسجام، بعد أن ثبت جلياً أن الأولى تتخلف كثيراً عن الثانية، لذا أصبح لزاماً تغيير الاستراتيجية الفكرية في مواجهة الإرهاب بالانتقال من نمط رد الفعل الجاهز بالعبارات المعلبة والمكرورة إياها إلى وضع أنساق تعتمد الأسلوب الوقائي طويل المدى.
اليوم لا بد من عمل منظم ومكثف ومستمر ينوع من أساليبه وطرائقه في تحصين شبابنا وصغارنا من التشدد والمتشددين، لا أقصد التشدد الشكلي كأن يقصر أحد ثوبه أو ينزع عقاله أو يحف شاربه ويعفي لحيته أو يذهب بهما إلى حيث ألقت، كلا، فهذا شأن شخصي بحت وحرية خاصة لا تضر أحداً، إنما أقصد التشدد الفكري الذي هو أس كل بلاء وشر وفتنة، والذي يفضي إلى تصنيف الحكومات والناس وتكفيرهم ومن ثم التحريض على قتالهم!! وفق خطوات تبدأ بالإرجاف والإشاعات مثل الحكم على كل وجهة نظر أخرى بالفسق واتهام الدعوة إلى إصلاح التعليم بدعوة التغريب ووصف إعادة النظر في التعامل مع الغرب ومد جسور الحوار والتسامح والتعايش مع الأديان الأخرى بالانسلاخ من الإسلام. هذه مجرد أمثلة وقد سمعت بعض شبابنا المتشدد، أيام طرح المملكة لمبادرة حوار الأديان، يعلنون عن مخاوفهم من أن تكون المسألة تمهيداً وتهيئة ذكية (متدرجة) للسماح مستقبلاً بإنشاء كنائس ومعابد في بلاد الحرمين. وفي اعتقادي أن تعبير شبابنا (المتحمسين) عن قلقهم هذا، يأتي كنتيجة طبيعية لأسلوب التشويش بالتأويل الخاطئ والمبالغ فيه، الذي يتخذه بعض المتشددين (الكبار) كطريقة سريعة التأثير لشحن المجتمع والشباب بالذات للخروج على مبادرات الاعتدال والوسطية بتشويهها عبر الزعم بتعارضها مع منطلقات وثوابت الإسلام، وقد كان المتشددون يقومون بذلك بشكل خفي وعابر في المدارس وفي بعض الحلقات وفي اللقاءات الجانبية في الشوارع والتجمعات السكانية القليلة وفي تجمعات الاستراحات والمناسبات أما اليوم فقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تتكدس بهم وصاروا يصرحون بدعواتهم التكفيرية والتدميرية في العلن وعلى رؤوس الأشهاد، متغافلين عن أن الاعتدال هو روح الإسلام وجوهره الذي تمثله أركان ثلاثة رئيسة هي "المحافظة على النفس والإقبال على الحياة والتفكير في أمر المستقبل".
لقد اتضح جلياً أنّ كهنة الأمس لا يزالون يعيشون بيننا، بصور جديدة، ويمارسون الدور التخديري نفسه، غير أنّ شعوب اليوم، في المجمل، ليست هي شعوب الأمس بكل تأكيد، وزمن الخطابات الكبيرة المفعمة بالدجل والأكاذيب قد ولّى وانتهى.
إن داعش اليوم هي "قاعدة" الأمس ذاتها مع الأسف، وكل هؤلاء يراهنون على الجواد الخاسر، لغة العنف والقتل والدمار، ولا ريب أنهم سيخسرون في النهاية، لأن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، فمهما تمسحوا بالله لن يضروا الله شيئاً، فهو سبحانه قد وعد بأن العاقبة للمتقين: الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الذين يورثهم الله الأرض!.
من هم هؤلاء؟
إنهم الذين يعمّرون الأرض ولا يخربونها، الذين يبنون ولا يهدمون، فكما لا يستوي الأعمى والبصير، فإنه لا يستوي الإعمار والتخريب ولا البناء ولا الهدم ولا سفك الدماء ولا حقنها. إن المراهنة على الجواد الصالح تعني أن يحتفظ الإنسان بيديه نقيتين صافيتين من تلويث الدماء. سيذهبُ الزبد جفاءً، كما أخبر الله، وما ينفع الناس سيمكث في الأرض. هذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تحويلاً ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
دون الذهاب بعيداً وعميقا إلى (الجذور) وتحرير ديننا ورده حراً وخالصاً لله - عز وجل -، يصبح كل عمل نطلع بأدائه في هذا الاتجاه عديم الجدوى.