في روايته الشهيرة 1984 قدم جورج أورويل تصوّراً دقيقاً عن الفكر الشمولي المتمثل في دولة متخيلة يحاول حرّاس الفكر فيها صياغة تفكير الناس ولغتهم حسب ما يتفق بدقة مع الأيديولوجيا المسيطرة. ذهب أورويل عميقا في تصوراته عن الفكر الشمولي ولكن الفكرة الأساس عنده هي أن هذا النمط من الفكر المدعوم بآلة جبارة يسعى لصياغة الحياة والناس والأفكار واللغة بما يتفق مع تصوره الخاص، إلى درجة أنه يقوم بإعادة صياغة اللغة ذاتها والتاريخ. لا يكتفي الفكر الشمولي بالحاضر بل يسعى لإعادة صياغة الماضي أيضا من خلال تبني تفسير معين ومحاربة باقي التفسيرات. في الرواية ، يقوم جهاز مراقبة الأفكار بصياغة اللغة من جديد وحذف ما لا يتوافق منها مع مزاج الأيديولوجيا. على سبيل المثال فكّر مطهرو اللغة فوجدوا أنه من الجيد إلغاء كلمة "حرية" من القاموس ومن الكتب ومن الأحاديث اليومية حتى تنتهي إلى الأبد هذه الكلمة ويرتاح حرّاس الأيديولوجيا من مطاردة المفكرين الأحرار أو بالأصح مطاردة من تراوده نفسه بأن يكون إنسانا. بهذه الخطوة يقوم حراس الفكر الشمولي بمسح الذاكرة الإنسانية مما لا يعجبهم وأنهم يعيدون تشكيل آلتهم الجديدة المسمّاة إنسان. أيضا، ومازلنا مع أورويل، عمل حراس الأيديولوجيا، أو الفكر الشمولي، أو الفكر المتطرف، على تنقية التاريخ من كل ما يمكن أن يسبب لرؤوسهم وجعا في المستقبل، فالشخصيات التي اعترضت يوما عليهم يجب مسحها من التاريخ وكأنها لم توجد يوما، وبالتالي تبتعد عن الأذهان فكرة وجود معارضة أصلا ولا مانع من مسح كلمة اعتراض أو تفكير من اللغة بحيث تصفو الأجواء بالكامل.

على ما في رواية أرويل من خيال إلا أنه قبض على مبدأ الفكر الشمولي، الفكر المغلق الذي لا يرضى بمشاركة المخالفين له في الفضاء العام ويسعى للقضاء عليهم بأي شكل من الأشكال. مبدأ هذا الفكر هو أحاديته المطلقة ونفيه للآخر ويتم تشغيل هذا المبدأ من خلال عملية منظمة وطويلة المدى لفرْض تصوراته الخاصة عن الحياة والإنسان والسياسة والاقتصاد والاجتماع والفن وشتى مناحي الحياة. أقول فرض لأن من حق الأفكار أن تسعى للانتشار ولكن المشكلة أن يتم الانتشار من خلال منع الآخرين من حق الوجود. فالفكر الشمولي يمارس تجاه الأفكار الأخرى تصفية لا فكرية بل تصفية جسدية إن صح التعبير من خلال العمل على سلبهم حق الوجود والمشاركة وكل نظام أيديولوجي لديه آليته الخاصة في التصفية. فالأيديولوجيا الشيوعية مثلا كانت تحارب الأفكار المخالفة لها باعتبارها عدوة للوطن والشعب وتسعى للتخريب ومساعدة الغرب والأيديولوجيا الإسلامية تقدم الأفكار الأخرى على أنها كفر ونصر للكفار وتحارب الله ويجب قتلها بأسرع وقت ممكن.

تذكرت كل هذا وأنا أفكر في مناسبة العيد وفي خطب العيد التي نستمع لها في كل سنة. سأتحدث هنا تحديدا عن خطبة سمعتها في إحدى قرى الجنوب حيث الناس من الفلاحين ورعاة المواشي. في ليلة العيد كنا في حديث جميل مع عدد من كبار السن في القرية عن مناسبة العيد. ذكر لي صديق كبير في السن ، في حالة من الاشتياق، أن أفراح العيد كانت تنطلق عندهم مبكّرا وتحديدا مع دخول العشر الأواخر. فبعد يوم شاق من العمل في الحقل يجتمع أهل القرية للفرح الحقيقي ليستحضروا كل تراثهم الفني وذاكرتهم الفنية في أجواء من البهجة والسرور. يقول: لم نكن نعرف هذا العزل الشديد بين الرجال والنساء، كنا نجتمع جميعا ونرقص ونفرح ونغني للعيد وفي الصباح التالي نذهب لحقولنا لكسب الرزق وفي أوقات الصلاة كان الواحد منا يغتسل من ماء الساقية ويؤدي صلاته بخشوع وبشعور بالاستقرار.

في اليوم التالي ذهبنا لصلاة العيد وكان المصلى خالياً من النساء، كانت الخطبة في مجملها وصايا للمجتمع ومن ضمن هذه الوصايا وصية عن الفرح. الفرح في هذه الخطبة لا ينتمي أبدا لفرح البارحة ولا لذكريات وتاريخ هذه القرية، إنه فرح غريب، فرح يتمثل في مزيد من العبادة وليس ما كنّا نتحدث عنه البارحة. في ذاكرة القرية الفرح فرح والعبادة عبادة والحياة السعيدة هي التي تحتوي الاثنين بدون توتر لكن الآن المعادلة اختلفت فالفرح - كما يفهمه أهل القرية - أصبح مرفوضا منبوذا وحلّ محله المزيد من العبادات، لم تعد الصلاة على طرف الحقل كافية هنا ولم تعد الرقصات الشعبية جزءا من الفرح، تغّيرت المعادلة وتشوّه الانسجام السابق وحلّ شكل عميق من أشكال الاغتراب بين الفرد وبيئته، بين الفرد وذاكرته وحياته.

ما يقوم به الإمام هنا هو إعادة لصياغة حياة هؤلاء الناس من جديد، صياغة لا تتم بطريقة طبيعية، كما تتم التحولات الثقافية والاجتماعية في أي مجتمع ولكنها إعادة صياغة قسريّة عنيفة تتم بأدوات دينية تجعل الفرد في مواجهة حدية مع معتقداته الدينية. مواجهة تقوم على المعادلة التالية: اتبعني وإلا فأنت عاص لله ومعارض لشريعته. ما كنتَ عليه في السابق هو فسق محرم يتوجب عليك التوبة منه والاستغفار عنه، كل لحظات الفرح السابقة معصية، مشاعرك الجميلة، التي تشعر أنها حقيقية، مزيفة. يجب أن تتوب من سعادتك السابقة ومن أيامك الجميلة الخوالي، حتى حنينك لها هو شكل من أشكال العودة للجاهلية الجهلاء وهو شكل من الحنين المنهي عنه، لا تحن لشبابك ولا لقصص الحب القديمة، لا تحنّ لليال طوال كنت فيها إنسانا فقد انتهى عصر الإنسانية ودخلت في عصر الأيديولوجيا التي ستقوم بإعادة صياغتك من جديد ولن يشغلها كثيرا شعورك بالاغتراب فأنت خارج الحسبة أصلا... فهمت حينئذ ذلك الحزن الذي كسا وجه صديقي كما فهمت ذلك الحبور والجمال في وجهه البارحة كما فهمت أورويل أكثر.