أيمن العريشي - أيرلندا


كثيرا ما تشدني تلك الأساليب العملية التي يبتكرها الآباء والأمهات في تربية أولادهم، تلكم الأساليب في مجملها قد تغني كثيرا عن التنظير الذي تزخر به حتى الكتب المتخصصة، لكن موضوع القدوة الحسنة يظل حاضرا وبقوة إذا ما أراد المربي لأسلوبه أن ينجح ويتم الامتثال له. ومن ذلك ما حكاه لي أحد الأيرلنديين حول الأسلوب الذي اتبعه في التعامل مع حفيده الصغير، عندما تحول هذا الأخير إلى ما يشبه قطعة إسفنج يلتقط كل مفردة نابية من رفاقه بالمدرسة والشارع ثم يستخدمها مع والديه وإخوته بالمنزل.

يقول الجدّ: فكرت في التشاور مع والديّ الطفل في طريقة مناسبة نستخدمها لعقابه؛ حتى يكف عن استخدام تلك الكلمات والعبارات؛ تمهيدا لحذفها من قاموس مفرداته إلى الأبد. أحضر الجدّ قارورة فارغة، ثم عقد اتفاقا مع حفيده في حضرة والديه، يتم بموجبه خصم مبلغ محدد من المصروف اليومي للحفيد في كل مرة يتلفظ فيها بمفردة خارجة عن حدود الأدب والذوق العام، ثم في نهاية الشهر يتم صرف المبلغ المتحصل عليه في نزهة خارجية أو عشاء عائلي. تفاخر الجدّ أمامي بنجاعة طريقته، وبأنها قد أثمرت بالفعل حفيدا مهذبا بلا ألفاظ قذرة.

حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم ـ حسب وصف الجد ـ حين اصطحبت حفيدي إلى ملعب كرة القدم لمشاهدة مباراة كان الفريق المفضل لديّ طرفا فيها، وليتني لم أصطحبه. فالجد ـ حسب زعمه ـ مشجع متعصب لناديه مذ كان صبيا يافعا، ومن ثم لم تزده الشهور والأعوام سوى تعصبا على تعصبه القديم، إضافة إلى أن الفريق يومها كان في أسوأ حالاته. لهذا وذاك فقد انطلق لسانُ الجد بكيل الشتائم خفيفها وثقيلها، المقبول منها وغير المقبول، اللائق إلى حد ما وغير اللائق بتاتا. كل ذلك تمّ بمرأى ومسمع من الحفيد المندهش من سيل الشتائم الجارف الذي تفجر فجأة من بين شفتي جده!

انتظر الحفيد حتى انتهاء المباراة، وفي طريق العودة إلى المنزل، إذ بالحفيد يعلنها صريحة في وجه الجد: لم أتوقع يوما أن تكون بهذه البذاءة في الألفاظ، التي يمكن أن أملأ بها بالنقود بدل الجرة الواحدة جرتين وربما ثلاث! ثم أضاف الحفيد: أنت يا جدي العزيز مطالبٌ بإعادة كل قرش أخذته مني بغير وجه حق.

إذاً فقد أفسد الجدّ بتعصبه في سويعات ما بناه عند حفيده من سلوك إيجابي في شهور. وهكذا أنت وأنا عزيزي الأب وأنتِ عزيزتي الأم حين نبني النموذج أمام أطفالنا ثم نهدمه، حين نصنع احترامنا في عيونهم ثم ننسفه، حين نتعبُ في تعليمهم الأصول ثم نتجاهل تطبيقها. إن أطفالنا على قدر من الذكاء يجعلهم يضعوننا على المحك في كل مرة نحضهم فيها على سلوك إيجابي، وننهاهم عن آخر سلبي. فلنبدأ بأنفسنا؛ كي لا نكون نحن من يملأ الجرة بالنقود كل مرة!