حذرت سابقاً في أكثر من مقالة نُشرت هنا على صدر صحيفة الوطن، من خطر تنامي تنظيم القاعدة في اليمن، ومساوئ انعكاس ذلك سياسياً وأمنياً على الجنوب السعودي، وقلت إن استعدادات وتدريب عناصر تنظيم القاعدة يتصاعدان يوماً بعد آخر، لتكوين ثاني الجيوش (الجهادية) الأربعة التي تتوزع على الجهات الأربع لجزيرة العرب، وكتبت حرفياً في مقالتي المعنونة بـ(قاعدة اليمن ووجه جزيرة العرب): "اللوحة الحالية تُظهر تنظيم القاعدة في اليمن كقوة ناشئة لا يستهان بها، ويجعل منها أخطر فروع التنظيم وأكثرها تهديداً على الإطلاق، وما لم تتحرك كل الدول لدعم الحرب على القاعدة في اليمن، فإن هذه المجاميع ستتحول إلى بعبع يقض المضاجع، خاصة إذا ما فشلت القوات اليمنية - ضعيفة التجهيزات - في التصدي لمقاتلي التنظيم لا قدر الله".

ولقد كان الاعتداء الإرهابي على شرورة إحدى محافظات منطقة نجران، منعطفاً حقيقياً يكشف جزءاً من واقع ما وصلت إليه قدرات أفراد التنظيم الإرهابي، المدعومة بخطاب انتهازي يختبئ خلف عباءة الدين، ذلك الخطاب المتشنج الذي يحاول رويداً رويداً سرقة لغة الإنسان الجنوبي، تلك التي ما حادت يوماً عن الوسط والوسطية، وناقوساً قرعه كل الوطن ليؤكد ممانعته ورفضه للشذوذ الفكري والأخلاقي، وليدفعنا إلى العمل بجد لإيقاف إعادة إنتاجه المستمرة أينما وجد، فالإسلام أعظم من أن يستغل لتبرير القتل والجريمة باسم الله تعالى، الذي يقول في كتابه الكريم: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق...).

وجنوب المملكة العربية السعودية المحادّ للجمهورية اليمنية، يمتد لمسافات طويلة تبلغ (1458 كلم)، تتنوع بين بحرية وجبلية وصحراوية، وهي مسافة من الصعب السيطرة عليها كلياً بمعدلات مرتفعة، لعوامل عدة منها تداخل القبائل والأنساب والعادات والتقاليد اجتماعياً، ووعورة كثير من مساحتها الجغرافية، وذلك لا شك مقلق أمنياً، ومراقبته العسكرية مكلفة مادياً إضافة إلى الجهد البشري المضاعف الذي تتطلبه مهمة بهذا الحجم، وهذه العوامل يراها العدو نقاط ضعف يمكن استغلالها لصالحه، لكنه نسي أنه يصطدم بأحد أقوى الدروع السعودية على مستويات عدة، ومحاولة جعله ثغرة ينفذ من خلالها كل مخرب وضال، هي محاولة فاشلة تماماً، لأن هذا الجنوب الممتد من - الباحة وعسير مروراً بجازان وصولاً لنجران - لم يكن يوماً إلا بوابة عظيمة منتجة للإبداع والمبدعين، وأهل العلم والفكر، ومنارة ترتبط بتاريخ بعيد في الذاكرة الإنسانية، حافل بالذكاء والأذكياء والتعايش والتسامح، كيف لا وهذا الجنوب يقع على طريق رحلات الشتاء والصيف التاريخيتين، فيجمع العلم بأخبار الشام والعراق ومصر وثقافات اليمن والقرن الأفريقي والهند، والجنوب قبل ذلك أمة أيها الإرهاب، لذا فمن السخافة الرهان على نصرته للإرهاب، أو تفريخه للإرهابيين، أو احتضانه للفكر المنحرف والشاذ، أو تحويله إلى ممر للتخريب والتدمير وترويع الآمنين في هذا الوطن الكبير، فلقد خسر أمامه كل الذين حاولوا أدلجته يوماً ما، وعادوا يجرون أذيال الخيبة، فكثيرون هم أولئك الذين مروا عبره، وقليلون هم الذين أثروا في تفاصيله، لأن الأمة الجنوبية لم تنقطع يوماً عن العلم والعالم، فتمكنت من احتواء كل فكر وفكرة، وإذابة كل مختلط بها من مختلف الأعراق والأجناس، تتنوع في ثقافته لغات الفكر والإبداع والالتقاء الإنساني، وهذه إحدى أهم نقاط قوته ومنعته، وأمة عريقة هذه صفاتها لن تكون حتماً لقمة سائغة لأي فكر ضال ومنحرف، ولن تكون حاضنة جيدة له على أية حال، بل ستكون أحصن بوابات الوطن الممتد إلى مشارف البتراء والبصرة وأمواج الخليج، وهذا الجنوب الفاخر بتنوعه، هو جوهرة في عقد المملكة العربية السعودية، ولا بديل إلا أن يكون عظيماً في هذا العقد التاريخي.