بعد تقديم التهنئة بالوصول إلى هذا الشهر المميز، ذي المكانة الخاصة؛ رمضان الغفران، وضيف الجود والإحسان، أنتهز فرصته للبوح (من القلب) بموضوع أزعم أن المناسبة الزمنية سانحة لطرحه.. أشكال الهموم التي نعاني منها كثيرة وكبيرة؛ وفكرت في حلول جادة، فوجدت أنه لا أسرع من تبني مشاريع فكرية تسامحية؛ خالية من (إلجاء) الناس إلى (أحادية الرأي)، أو (الرأي الأحادي). ذكرت كلمة إلجاء، وجعلتها بين قوسين لأؤكد على ضرورة الترفع عن الابتذال الطائفي، وضرورة الانتصار للحكمة والوعي والعقل.. الناس في حاجة إلى التخلص من عقدة الانتصار لمذاهبهم على حساب دينهم، وفي حاجة إلى الوعي بأن أجواء التقسيمات بغيضة، ولا تخلف إلا البغض، وتأجيج الفتنة لا ينتج إلا الشر المستطير.
للإنصاف أذكر أن هناك بيننا من يبني، ولكنهم قلة، أما الكثرة الكاثرة فعلى العكس؛ الفرد منهم يعمل لتقسيم الناس، ويجتهد في تصنيفهم (سلبيا)، وطعنهم من الخلف، والأدهى والأمر أنه يكيل من لا يعرف ومن يعرف بمكيال واحد.. والحل مرتكز في التفاهم بطريقة التسامح، وإثبات حق الاختلاف، وممارسة التعددية في وجهات النظر، وتجديد الفكر بما يناسب العصر، والعمل على إصلاح مواطن الخلل في كل المناحي، وفتح المجال للتصورات الواعية، والسعي للبعد عن التعصب.
عمليا.. نحن نتعبد الله ربنا بقوله سبحانه: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، ومن خلال التدبر في القرآن نجد أن الاختلاف وارد، والوعي بهذا سيطهر النفوس المسكونة باليأس والإحباط، وسيسهم في إزالة العوائق، وسيقودها إلى الحيوية المطلوبة، وسيعافيها مما حل بها.. لا يصلح أن يكون بيننا فرقاء، ولا يليق أن تكون القواسم البينية قليلة، ولا بد من السعي إلى تعظيم المشتركات، فهي الرادع عن الخلاف المشين، أما كثرة تناول الاختلافات فلا تأتي إلا بشر.
(من القلب).. أدعو نفسي وغيري في رمضان الخير إلى تعظيم جوانب الخير في بعضنا، والسعي إلى أن تكون شخصياتنا متوازنة؛ نحب العلم والبحث، ونحترم تعدد الاجتهادات، واختلاف التصورات. نكافح الاستعلاء على بعضنا، ولا ننتقص من إمكانياتنا. لا نلوذ بالقديم للهروب ممن الجديد، ولا نقفز على واقعنا، بل نقفز معه. ننتبه إلى ضرورة ترك الجدل والصراع، والمساهمة في البناء الواحد، دونما وصايات، وخصوصاً على العقائد والضمائر.. يقول مالك بن نبي أحد أبرز أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين؛ ومن أشهر من نبه إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة، ويعتبره الكثيرون امتداداً لمؤسس علم الاجتماع؛ ابن خلدون، يقول في واحد من أهم مؤلفاته التي كتبها أثناء إقامته في فرنسا ـ (وجهة العالم الإسلامي، ص 55): "ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة؛ إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه، باعتباره مصدرا للطاقة".
اللهم أهل علينا رمضان باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام.. يا خالقنا: أذهب الظمأ.. يا رازقنا: بل العروق.. يا من ليس لنا في الوجود رب سواك: ثبت الأجر.. يا من ليس لنا في الكون إله غيرك: صل وسلم على سيدنا محمد الرؤوف الرحيم، من أرسلته رحمة للعالمين، وآله الطاهرين، وصحابته الميامين أجمعين.