من خلال عملي في مجال تدريس الطالبات "جامعة الدمام" مجمع الراكة، أصادف نوعية معينة من الطالبات، وهن في الغالب يستحوذن على اهتمامي؛ بسبب تكوينهن الذاتي واحترامهن لأنفسهن، إلا أني في الفصل الصيفي أصادف مجموعات مختلفة، فبسبب طبيعة هذا الفصل وكون الشعب الدراسية فيه غير مخصصة لكليات بعينها، تسجل فيها طالبات من عدة كليات، بل قد تضم طالبات زائرات من خارج الجامعة.
وفي الفصل الصيفي الحالي كلفت بتدريس مادة: "النظام السياسي في الإسلام"، وهذه المرة الأولى التي أدرسها كمادة مستقلة، فقد كان النظام السياسي في الماضي جزءا من مادة أخرى.
لقد كنت متخوفة نوعا ما من عدم قدرتي على إيصال الفكرة العامة للمادة بصورة واضحة لا تحتمل الشك أو التأويل.. كنت أعتقد أن الطالبات يحتجن جهدا مضاعفا لتحديد الأطر والقواعد الشرعية للسياسة الإسلامية، كنت أعتقد أن فصلا واحدا "مضغوطا" كالفصل الصيفي قد لا يكفي لذلك.
وكانت المحاضرة الأولى ـ كعادتها ـ هي المفصل الأساس الذي سأتحرك من خلاله مع الطالبات.. دخلت لأرى وجوها اعتدت رؤيتها لسنوات مضت، فقد كانت ملامح الفتيات هادئة مترقبة دون حماس ملفت، فلم يظهر على ملامحهن عدم المبالاة، ولم يظهر عليهن الحماس الزائد.. ولا أخفيكم سرا أني من خلال تلك الدقائق عرفت أن نجاحي هذا الفصل ممكن وميسر بإذن الله سبحانه، مع هذه النوعية من الطالبات اللاتي لا تجمعهن إلا الرغبة في الإنجاز، ومع ذلك كان لا بد من الوقوف على رؤيتهن السياسية وحدودها وأبعادها، وهل لديهن معرفة مسبقة بالسياسة الشرعية، أم أن اهتمامهن بها منعدم.. انتهت المحاضرات الأولى وأنا أتحدث وأعرض الخصائص والسمات العامة للنظام السياسي من خلال المنظور الإسلامي، ثم عقدت العزم على تقسيم الشعب - أي الفصل الجامعي - إلى مجموعات، أضع أمام كل منها قضية مطروحة عالميا.. وأخصص دقائق معدودة لتتباحث الطالبات فيما بينهن، ولينظمن أفكارهن قبل عرضها ونقاش معطياتها. كانت القضية الأولى تتعلق بمفهومهن للعدالة والمساواة، وما الذي يخترن لو خيرن بين الاثنين، علما أني لم أكن قد تطرقت لهذه القضية من قبل، فقط أردت معرفة أفكارهن عنها لعلي أبدأ من حيث انتهت الطالبات، فقد كان الأمر متوقفا على ما سأسمع منهن.
وكانت لحظة الطرح من أجمل اللحظات التي استحوذت على اهتمامي ونالت إعجابي.. لدرجة أني لم أصدق ما سمعت.. لقد تركن هذا الانطباع لقدرتهن على إيصال الفكرة بعبارات بسيطة واضحة، منهن من أسهبت ومنهن من أوجزت، ولكنهن في المجموع أبدعن، مع أنهن ـ على الأغلب ـ طالبات من المستوى الثاني، بمعنى آخر.. كن شابات يانعات وواثقات بأنفسهن بحمد الله.
أما النتيجة؛ فقد كانت تتمحور في مجملها في أنهن لو كان عليهن الاختيار بين "المساواة والعدالة" فهن يفضلن العدالة عن المساواة، فالمساواة المطلقة على حد قولهن لن تضمن العدالة، بل قد تجلب الظلم أحيانا، فهي لا تتوقف عند الاختلافات المتحققة بين طبيعة الأفراد، إذ تتعامل مع الناس من منظار واحد، في حين أن "العدالة" إذا تحققت تضمن بإذن الله الإنصاف من خلال مراعاتها للاختلافات البيولوجية والخلقية بين الأفراد.
وجدير بالإشارة هنا، أن بعضهن طرحن أمثلة تدعم أفكارهن، فكان منها أن المطالبة بمساواة المرأة بالرجل من حيث التكاليف ظلم لها، فالعدالة تتطلب تكليفها بما تطيق وتكليف الرجل كذلك، فما يطيقه مختلف كما ونوعا عما تطيقه المرأة، بل ما تطيقه لا يستطيع الرجل القيام به، وبالتالي فالمساواة بشكلها المطلق توقع الظلم، إذ قد تكلف الأفراد بما لا يطيقون، وقد توفر لهم ما لا يحتاجون.. لقد أضحكتني إحداهن وهي تؤكد هذه النقطة، فقد كانت حينها تلعب بخصلة من شعرها لتؤكد بفعلها وقولها اختلاف طبيعتها عن طبيعة الرجل! هذا مجمل ما سمعت في هذه القضية من طالبات في المراحل الأولى من الفصل الصيفي الحالي.
أما القضية الثانية التي طرحتها للمداولة، فكانت متعلقة بقضية حساسة جدا للكثير من الدول، وهي متعلقة برأيها في الحزب الديني أو السياسي الذي يقدم خدمات صحية وتعليمة وإنسانية لأعضائه.
كنت أترقب انتهاء الفترة المخصصة لمناقشة الطالبات داخل المجموعات؛ لأسمع رأيهن، خاصة أن الموضوع كان مقررا أن يتم شرحه في اليوم التالي.
وحان الوقت لأسمع طرحهن، وحان الوقت ليزداد انبهاري بطالبات يانعات في مقتبل العمر، فقد سمعت منهن ما فاق كل توقعاتي، قالت ممثلة لإحدى المجموعات: هذا فيه ظلم شديد، إذ يختص فريق دون الآخر بالرعاية، خاصة لو تسلم هذا الحزب الحكم، فسينال أعضاؤه كل الرعاية دون غيرهم ممن هم خارج الحزب، وقالت أخرى ستتحول البلاد إلى دويلات داخل دولة، كل من الأحزاب يستقطب أعضاءه ضد غيره من الأحزاب وضد الحزب الحاكم، بل والحاكم نفسه، والوقائع المشاهدة أكبر شاهد على ذلك، وقالت أخرى: الخلاف بينهم قد يصل للعداء أو لممارسة العنف اللفظي بل الجسدي.
عندها لم أملك إلا أن أشيد بفكرهن وبقدرتهن على إيصال أفكارهن في قضايا حساسة تطرح أمامهن دون سابق إنذار.. لقد شعرت أن البلاد مع أمثال هؤلاء في أمان بإذن الله.. ليس فقط لأن فكرهن يتوافق مع المدلول الشرعي، بل لاحترامهم لأنفسهن ولغيرهن، أمثال هؤلاء ممن تخصصن في مجال الحاسب الآلي وإدارة الأعمال والهندسة والطب، عندما يطرحن هذا الطرح أتذكر تلك الشابة التي كنت عليها والتي كنت أعتقد فيها، فأشعر بالخجل.. فاعتزازي بنفسي وبرأيي آنذاك.. يتهافت أمام ما أراه من طالباتي، وأمام ما يصلني منهن، حفظهن الله وبارك في جهودهن إنه ولي ذلك والقادر عليه.