يأخذ التأمل منزلة عالية عند الشاعر حسين آل دهيم. تحل الفكرة أولا. الذهن حاضر ومتصدر. قد تفوته الحالة الشعرية وليونتها لأن مسافة تحكم الكلام فتجعله مترددا في أن يغطس بكامل هيئته في الماء؛ يكتفي بالبلل وبالندى تحت جسد صلب يريد الاحتفاظ بقوامه كما هو في أولوية. كأنما هي خيار إلزامي، من العسر بمكان، يصعب التحلل منه واقتراف الأجنحة التي لا تهتم ويسعدها الارتطام.

الحذر من ضياع الفكرة يجعل آل دهيم متنبهاً وهو يكتب نصه؛ حذره الذي هو وجه آخر لحريته في الكتابة وفي النظر وفي الحياة قيمتها تتحدد في التمرد والخروج. لهذا لم يكن غريبا عنوان كتابه الثاني "أوبة الهرطيق" (دار مسعى للنشر والتوزيع، البحرين ـ 2014) الذي يحتفي بالتمرد وبالصدام؛ فكرة ومعجماً. يناوئ ما هو مستقر، يناكفه وينكّد عليه، وكثيراً ما ينكّل به. تجده نافراً من الاطمئنان. يقلقه الثبات. يسعى بالشك وينثر التردّد. رأسه في السؤال ويداه تدفعان عنه أي إجابة.

في القسم الأخير من الكتاب، وتحت "تشكيل آخر للهوية" نقرأ تسعة عشر نصاً أو فكرة. ربما، يكون نص "اليقين" أوضحها وأبلغها في رأيي وتمثل بيان الشاعر وحاله وخطابه دون مواربة ولا تعتيم:

(يقينك الذي يدفن رأسه في عقلك

يترك لك طرف ذيله كي لا تتهمه بالخيانة

اليقين خاتم جميل لكن حجره رديء

اليقين أرض فضاء تسمت ببذور الاستقرار

إذا تثاقل اليقين، انقض عليه الشك ببسالة

لو قيل بأن اليقين فتاة، لا تتزوج بها

اليقين مصيدة ستنفتح على رقبتك، لو داعبتها ريح خفيفة).

هنا النص منفتح في بنائه على "التوقيعة" ولا أقول الشذرة بطابعها البرقي ووميضها الذي ينبعث من التشظي، والالتماع الذي يصنعه التفجر قادماً من اللا وعي أو الوعي الممسوس بنار غير منظورة. هنا التوقيعة تتخلى عن الانفعال. بهدوء تذهب إلى المعنى وإلى الرسالة والموقف. الفكرة هي التي تمسك بمسار الجملة، وتؤدى في وجازة واقتضاب وعلى نحو متماسك عميق يتوخى البرهان والإقناع؛ مرة عبرالصورة المؤثرة ومرة عبر النصيحة بطريقة يلونُ فيها آل دهيم توقيعاته تلويناً يوسع المسار بما يوطئ لفعل الإحاطة بما ينقض الحالة الوثوقية القطعية ويبين العطب الذي تخلفه عند صاحبها، لكن على شكل مفارق، حيث إن ما يترسب، في الوهم، من بناء متضام ويظن فيه القوة والرسوخ والقدرة على الصمود، فيما هو عند التحقيق وعند ريح الاختبار ليس شيئاً من ذلك مجرد مظهر خارجي مصنوع من الفلّين المصبوغ بوهم المحاكاة غيرأنه لا يحوي إلا الفراغ؛ مجرد غلاف بالورق المقوى حشوه نشارة خشبية يتمزق عند أول نفخة وتتناثردخيلته في الهواء. وهذا يعني بالغ الحذر من ادعاء امتلاك الحقيقة وحيازتها في فرد أوفريق دون آخر الذي يقع عليه الإقصاء والتهميش لأنه خارج النظرة وبعيد عن الحقيقة الذهبية. الهشاشة هي الخلاصة التي تنتهي إليها المواقف والأفكار اليقينية؛ الخاصرة اللينة؛ العنق العشبية:

"اليقين مصيدة ستنفتح على رقبتك، لو داعبتها ريح خفيفة".

* كاتب سعودي