كان ذلك في سبتمبر من عام 1945 على ظهر بارجة حين وقع الفريق الياباني وثيقة استسلام اليابان بدون قيد وشرط، كما فعل قبل ذلك الألمان في برلين وانطفأت معها نيران الحرب الكونية، التي أحرقت أرواح ملايين لا تحصى، قيل إنها فاقت خمسين مليونا من الأنام، أي ما هو عدد السكان لشعب كامل، فعدد سكان إيطاليا الحالي هو هذا الرقم، ومع نهاية الحرب فنيت النازية والفاشية، وعلا في السماء علم الشيوعية حتى حين، ثم دفنت الشيوعية وقبلها الحرب الباردة، وأعجب ما حدث في وثيقة استسلام اليابان أن فريق الاستسلام الياباني لفت نظر الأمريكيين إلى خطأ بروتوكولي في التوقيع؟ وتوجه الإمبراطور الذي حرصت الوثيقة على الاحتفاظ به إلى الشعب الياباني فخطب فيهم بلغة أدبية مُنمّقة وقال بعد أن اشتعلت فوق أرضه النار النووية كأنها وردة كالدهان، فقال: يا شعبي العزيز لقد تمكن العدو من الوصول إلى سلاح يمكن فيه أن يبيد شعبنا كلية ولذا علينا تحمل ما لا يمكن تحمله بالاستسلام.
لقد كان الخطاب قاصما للظهر، وبدأت سلسة من الانتحار تطال الكثيرين من اليابانيين الذين فضلوا الموت على الاستسلام، ولكن اليابان استسلمت وبدون قيد أو شرط، ووضعت رقبتها في يد ماك أرثر الجنرال الأمريكي، الذي حكم اليابان كما حكم بريمر العراق، وسرح كلاهما الجيوش والعساكر إلى بيوتهم، فأما اليابانيون ففعلوا الشيء العجيب من عدم مقاومة المحتل بالسلاح والمتفجرات والحرب الأهلية بين الشيعة والسنة، بل مضى الجنود إلى بيوتهم واستقبلت العائلات أولادها المنكوبين من الحرب، وبدأت اليابان حربا جديدة، وبالأحرى حياة جديدة بالتصنيع، إلى الوقت الذي أمسكت اليابان أمريكا بالخناق اقتصاديا وليس عسكريا، ومنه يقول الاقتصاديون أن أمريكا هي الأقوى عسكريا والأذل اقتصاديا، وحاليا فإن الدولار العملة القيادية في العالم مخزونة ليس في مانهاتن بل طوكيو وشانغهاي وسنغافورة.
إنه جدل عجيب في التاريخ أن تُهزم ألمانيا وينتصر المارك واليورو، وتُذل اليابان ويرتفع الين فيلتهم الدولار، كما في قصة يوسف عن بقرات عجاف يأكلن البقرات السمان، فهذه الأيام كما وصفها الرب يداولها بين الناس.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما بال مصر تتصل بفرنسا والنهضة وترسل رفاعة الطهطاوي فيكتب تلخيص الإبريز في أخلاق باريز؟ وترسل اليابان في عهد الميجي فريقا يتعرف على التقنية الغربية؟ والمحصلة أن مصر ترزح في المشاكل حاليا مثل الغارق في رمال متحركة كما وصف محمد أسد في كتابه الطريق إلى مكة كيف غرق في الرمال المتحركة، وما بال اليابان تعلو إلى أعلى عليين، وتنزل مصر إلى أسفل سافلين؛ اقتصادا فقيرا لا ينهض ولا يشتغل إلا دُولة بين يدي المافيات، السؤال المحير والذي ليس له جواب: كيف استسلمت اليابان وكيف استسلمت العراق؟ فأما في اليابان فليس من مقاومة مسلحة، وليس من طقطقات إلا طقطقات آلات المصانع! لماذا يحدث عندنا تراكم الاحتلال فوق الاستبداد، وعند اليابان ومع الاستسلام النهوض؟
في قناعتي أن الجواب على هذا السؤال الثاني أسهل من الأول، فاليابان وألمانيا كانتا بلدين مؤسسين على الصناعة والديموقراطية والحداثة عموما، وكانت الهزيمة نكسة في الطريق يمكن ترميمها مثل المرض العارض لشاب قوي، ولكن السؤال المحير: كيف اتصلت مصر بأوروبا بدون فائدة؟ وكيف اتصلت اليابان بأوروبا وتحولت إلى النسق الأوروبي، مع أن اليابان بلد بوذي شنتي وليس مسيحيا، كما أن شرق أوروبا وأمريكا الجنوبية هي مسيحية ولكنها ترزح في المشاكل والتخلف؟ خلاصة القول: إن استسلام اليابان كان خيرا عميما عليها، وحين تأتي أمريكا إليها وتطلب منها التسلح تجيب بأدب شرقي أنها ملتزمة باتفاقيات الاستسلام ولن تتسلح قط.
أما الجيوش العربية التي تتسلح فلم تستفد منه إلا حروبا داخلية وانقلابات عسكرية ولم ينفع في وجه إسرائيل قط! أليس كذلك؟ ولكننا لا نعترف.