شاركت المملكة في المؤتمر التاسع للمنظمة الأوروبية للأجهزة العليا للرقابة المالية (اليوروساي)، الذي عقد في مدينة لاهاي بمملكة هولندا خلال الفترة من 18- 21 شعبان 1435.
ويهدف المؤتمر الأوروبي إلى إعداد قيادات شابة ترأس الأجهزة الرقابية الأوروبية في المستقبل، حيث تم استدعاء (2) من المراقبين من كل جهاز رقابي أوروبي لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والثلاثين، لطرح أفكار جديدة وتبادل المعرفة مع النظراء الأوروبيين، وأن يعمل الموظفون الشباب في الجهاز الرقابي جنباً إلى جنب خلال المؤتمر، بهدف "إلهام بعضهم البعض، والعودة إلى ديارهم مع شبكة جديدة من التواصل التي لا تقدر بثمن"، وقد تضمن المؤتمر عروضا ومحاضرات وفاعليات تطبيقية، وورش عمل لأعضاء اليوروساي الشباب للبحث عن حلول إبداعية للتحديات التي تواجه أجهزة الرقابة العليا في أوروبا.
المؤتمر يعكس اهتمام الاتحاد الأوروبي بجيل الشباب بشكل عام، ووضع البرامج اللازمة من أجل إعداد قيادات إدارية شابة في المستقبل، وهذا المؤتمر ليس الأول من نوعه، بل يأتي امتداداً لمؤتمر الشباب (YES)، الذي عقد في روتردام في عام 2013.
وكم كنت أتمنى أن يكون مثل هذه البرامج التي تهتم بالشباب موجودا لدينا، وخاصة أن بعض الجهات الحكومية تعاني من ضعف القيادات الإدارية فيها، ولا أبالغ إن قلت إن بعض هذه القيادات غير موجودة في بعض الأحيان.
وقبل الحديث عن مشكلة القيادات الإدارية، سأتحدث في البداية عن كيفية التعامل مع الموظفين الجدد من الشباب في بعض الجهات الحكومية، والتي لها علاقة بنوعية القيادات الإدارية سواء في الحاضر أو المستقبل.
ففي بعض الجهات الحكومية يتم وضع برامج تدريبية للموظفين الجدد، تسمى التدريب على رأس العمل، وهي في الغالب عبارة عن محاضرات نظرية وضعيفة فنياً ولا ترتبط كثيراً بواقع العمل، ومدتها لا تتجاوز الشهرين تقريباً، ثم يوزع هؤلاء الموظفون على باقي الإدارات والأقسام في الجهة، لأخذ فكر عامة عن عمل ومهام كل إدارة.
بعد ذلك يعود كل موظف إلى الإدارة التي يعمل فيها، ويطلب منه مراجعة الملفات والمكاتبات القديمة، ويبقى الموظفون على هذا الحال لأشهر عديدة وربما سنة حتى يتم "إلقاؤهم في اليم"؟
والمقصود بالإلقاء في اليم، هو تكليف الموظفين الجدد بمهام فعلية، ومطالبتهم بإنجاز العمل وهم يجهلون آليات التنفيذ وطبيعة هذا العمل بالتحديد، ودون وجود شخص مسؤول يوضح لهم الكيفية التي ستؤدى بها هذه المهام، أو متابعتهم والرد على تساؤلاتهم واستفساراتهم، فكأنهم بذلك يلقون بأشخاص يجهلون السباحة في اليم، وفي مقابل ذلك فإن الموظفين مطالبون بألا يخطئوا أو يتأخروا في إنجاز العمل عن الموعد المحدد، وإلا فعليهم أن يتحملوا عاقبة ذلك.
بعد ذلك تتم ممارسة التخويف والتهديد على هؤلاء الموظفين وبشكل متعمد، حتى يخضعوا للسلطة الإدارية، فيتصرفون كما تريد هذه السلطة بدافع من الخوف، وهنا تنشأ نوعية من الموظفين تتسم بالخنوع، فليس لديها إلا السمع والطاعة لكل ما يصدر إليها من أوامر، كما تنشأ نوعية أخرى منافقة، تظهر السمع والطاعة للرؤساء، على حساب هموم الموظفين الآخرين.
وفي ظل هذه البيئة الإدارية، يتم القضاء على القيادات الإدارية وتطفيشها، وإضعاف جيل الشباب من الموظفين الجدد، فتصبح هناك قيادات إدارية ضعيفة سواء من جيل الشباب أو القدامى من الموظفين، يميلون إلى تجنب أي مسؤولية في اتخاذ القرار، كما ينزع الموظف إلى أن يلقي بالقرار إلى رئيسه حتى يصل الموضوع إلى الوزير الذي يضطر إلى معالجة الكثير من التفاصيل الإدارية الصغيرة، وهذا أحد أسباب لجوء المواطنين إلى الوزير في جميع أمورهم ومصالحهم.
فإذا كانت القيادة الإدارية تعني فن التأثير في الآخرين على نحو يجعلهم يتحركون لتحقيق الأهداف المطلوبة، فإن هذا النوع من القيادة قد ينعدم في بعض الجهات الحكومية، والموجود فقط نوع من الرئاسة الإدارية التي تعتمد في ممارستها لوظائفها على ما تملكه من سلطة منحها إياها القانون أو النظام، بينما تعتمد القيادة على "اقتناع أفراد التنظيم بالقائد وثقتهم الكبيرة به، فالقيادة تركز على قدرات واستعدادات طبيعية كامنة في الفرد تؤهله لإحداث التأثير في أفراد الجماعة".
ونتيجة للوضع السابق، فإن الفوضى والعشوائية هي السمة الغالبة للبيئة الإدارية، وهنا يقال عن الشباب السعودي إنهم غير قادرين على العمل وينفرون من الوظيفة ولا يمكن أن يصلوا إلى مستوى القيادة الإدارية ولا يستطيعون أن يتحملوا مسؤوليات أكبر.
ولكن التجربة أثبتت عكس ذلك، فإذا تم إعداد الشباب وتدريبهم التدريب الكافي وإعطاؤهم الثقة المطلوبة والمشاركة في صنع القرار، والتعامل معهم على أساس الحب والاحترام، وتقديم الحافز المادي والمعنوي لهم، فإنهم بالتأكيد سوف يحققون المنجزات، ويقومون بدور فعال ومؤثر تجاه وطنهم، ويبذلون الكثير من التضحيات في سبيل ذلك.
وفي هذا الصدد، يقول غازي القصيبي رحمه الله ما نصه: "لقد شهدت خلال تجربتي العامة شباباً سعودياً يفاوض ويناقش المسؤولين في أضخم شركات العالم، وشباباً سعودياً يصحح أخطاء في التصميم لأشهر الشركات الاستشارية..".
للأسف، هناك من يقاوم جيل الشباب من بعض الجهات الحكومية، ويجعلهم بمثابة المشجب الذي تعلق عليه كل الأوزار، ونحن بحاجة إلى وجود إجراءات تصحيحية جادة تبدأ من منطلق فرض القدوة الحسنة، وعلى اختيار القيادات الإدارية الشابة وإفساح المجال أمامها للمشاركة في صنع القرار، فهناك الكثير من الأسباب وراء عثرات الإدارة ووراء عثرات بعض الجهات الحكومية، ولكن الأسباب كلها تكاد القيادات الإدارية الضعيفة هي القاسم المشترك لها، فأغلبها ضعيف ومغلوب على أمره، والنتيجة أن مثل هذه الجهات تحكمها سلطة إدارية ظالمة ومتعسفة.