التقيت صدفة بمقال للراحل غازي القصيبي بعنوان "وداعاً رمضان"، كان غازي يرثي فيه حال رمضان، ويقارن رمضان قديماً برمضان الآن قائلاً: "إن هذا الضيف الغالي رحل عنا منذ زمن أحسبه يعود إلى فترة الطفرة الأولى، وحل محله رمضان آخر بملامح نعرف أقلها وننكر معظمها. رمضان القديم لم يكن "أولمبياد" طعام يتضاعف فيه استهلاك المواد الغذائية عدة أضعاف. ولم يكن موسم تلفزيون يجمد أمامه - كالخُشب المسندة - النساء والرجال والكبار والصغار، ولم يكن يأتي وفي صحبته مسلسلات لها أول وليس لها آخر وليس في واحد منها شيء عن تزكية النفس أو تنقية الروح.

لم تكن مسابقة في الفتوى بين المفتين، ولا في الجمال بين المذيعات، ولا في الذكاء بين المحللين السياسيين، ولم يكن مدرسة للعادات السيئة يتعلم فيها الصغار الطعام المتصل، والعبث المتصل، والسهر المتصل في رمضان القديم كان الطلاب يذهبون إلى مدارسهم كالمعتاد. وكان الموظفون يمارسون عملهم كالمعتاد" حتى ينهي مقاله متسائلاً: أي هدف من أهداف الصيام الربانية يتحقق في رمضان الجديد؟ ويختم غازي - رحمه الله - مقاله بسؤال آخر: "بالنسبة لي فأنا أحن إلى رمضان القديم كثيراً ولا أدري عنكم!"، فجاوبته بصوت غير مسموع هكذا وجدناه رمضان يا غازي. ففي رمضان الآن تقوم وسائل الأعلام العربية بإنتاج أضخم برامجها، وتسوق لها متجاهلة بأن هذا الشهر شهر فضيل، في الوقت الذي من المفترض أن يكون خالصاً لوجه الله. نجد الإعلام العربي يحثنا أن يكون خالصاً لبرامج كوميدية يستطيعون عرضها بأشهر أخرى.

ما الذي يمنع الإعلام العربي من أن يعرض برامجه الضخمة مجدولة على مدار السنة؟ لماذا طوال السنة يعملون من أجل برامج تعرض في رمضان فقط؟ وما إن يتمتعوا بعد رمضان بإجازة قصيرة، حتى يبدؤوا المنافسة والسباق لشهر رمضان القادم. حين تقول يا غازي إنك تحن لرمضان القديم فنحن أبناء هذا الجيل هكذا وجدناه. وجدناه مجرد كرنفال صارخ للإعلام العربي. يشربوننا برامج ومسلسلات حتى نثمل عن المعنى الحقيقي لرمضان.

مقارناتك يا غازي تجعلني أتشوق أن أعيش رمضان مثل رمضانك ممتلئا بالتقوى لا نجد فيه من يلهث متلمظاً من حسناء في مسلسل إلى حسناء في مسلسل آخر، نتلهف لرمضان مثل رمضانك، يشعر فيه الغني بالفقير، لا أن نجد من يأكل في ليلة واحدة ما يكفي قرية أفريقيا بأكملها، ورمضان مثل رمضانك مفعما بالروحانية، لا أن نقضي شهراً يجسد المادية الطاغية بدءا بالإعلانات وانتهاء بجوائز المسابقات، رمضان نجد فيه الأسر الصغيرة تجتمع بانتظام في بيت الأسرة الكبير لا أن تجدهم متفرقين يفضلون الالتهاء ببرامجهم التلفزيونية على الالتقاء بالأقارب، نريد رمضان نجد فيه من يسعى للصلح بين من كان بينهم خلاف وللجمع بين من كانت بينهم قطيعة، رمضان نجد فيه الموظفين يمارسون عملهم كالمعتاد، لا أن يكون وصلة نوم وخمول، استجماما من سهر الليلة السابقة، واستعداداً لملامح الليلة القادمة.

أشتاق لرمضانك يا غازي وإن كان البعض يختلف معي ومعك في تفضيل رمضان فترة الطفرة الأولى على رمضان الآن، ويرى أن تفضيل رمضان الماضي على الحاضر بالمطلق ليس دقيقاً وهو ما وصفه الدكتور محمد الحمد بأن رمضان الحاضر يمتاز عن رمضان الماضي بإقبال الناس على صلاة القيام والتراويح، وأن المساجد الآن مكتظة بالمصلين على اختلاف طبقاتهم رجالاً ونساءً، شباباً، وكهولاً، وشيباً. ويلاحظ كثرة المعتمرين والمصلين في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومختلف مساجد الدول الإسلامية على عكس ما كانت عليه المساجد قبل ثلاثين سنة، فقد كانت شبه خاوية لا يصلي فيها التراويح إلا عدد قليل من كبار السن.

ويرى أن الناس الآن يهتمون بصيام الصغار أكثر مما كانوا عليه قديماً، ويرى الدكتور محمد الحمد بأننا الآن نمتاز بصيام النفل كصيام الست من شوال حتى نشعر من كثرة من يصومونه بأننا ما زلنا في رمضان، وبأننا أكثر عناية بتفطير الصائمين، والعناية بالعمال، والفقراء والجاليات، وبأن رمضاننا الحالي يمتاز عن رمضان الماضي بكثرة المواعظ التي تلقى في المساجد، وعبر وسائل الإعلام مما يفيد عامة المسلمين، ويشرح لهم أحكام الصيام وأدابه ونوازله، وأن رمضاننا يكثر فيه حفظة القرآن المتقنون، الذين يؤمُّون الناس بأصوات جميلة وأداء حسن يُعين الناس على أداء صلاة التراويح والقيام، وعلى الخشوع والتدبر لما يتلى من الآيات عكس ما كان عليه رمضان في الزمن الماضي من قلة في عدد الحفظة للقرآن بل كانت هناك قلة ممن يتقنون مجرد التلاوة.

رغم المحاسن التي ذكرها الدكتور محمد الحمد عن رمضان الآن، إلا أنني أميل كثيراً لرمضان غازي القصيبي، وأتمنى لو أن أعيش رمضان الزمن الجميل بهدوئه وبساطته واجتماع الناس والأقارب على سفرة الإفطار، وصدقاً؛ أنا أحن إلى رمضان الذي وصفه لنا غازي القصيبي ولا أدري عنكم؟