عندما يذهب صاحب الحق إلى القضاء ليأخذ حقه، ويستند في دعواه إلى الشهود، فكثيرا ما يطلب القضاء تزكية هؤلاء الشهود خاصة في القضايا المالية والجنائية، إلا أن بعض الشهود يرفض الشهادة لاعتقاده أن إحضار المُزكّين طعن في عدالته وكرامته، كما أن بعض أصحاب الحقوق قد يكون لديه شاهد ظاهره العدالة إلا أن القاضي قد يرفض شهادته اجتهادا منه، طبقا للإجراءات الحالية في عدالة الشهود والطعن فيهم، بالرغم من أن الشاهد عدل في نفسه!

ماذا إذا كان الشاهد مهنيّا؟ مثل الطبيب الذي يشهد على أمر مهنيّ أو المهندس وضابط الأمن وهكذا؟

الحقيقة أن القضاء لدينا بقي مرحلة طويلة جدا دون أن يدخله التحديث والتطوير، وهناك العديد من القضايا حول تطوير آليات القضاء ووسائله، والتي في أكثرها تحتاج للنقد والمراجعة العلمية أولا بالحوار والنقاش في دواوين القضاء والحقوق أولا ثم النظر في كيفية تطبيقها بعد أن يتم استخلاص أفكار ناضجة ومعمَّقة.

كان الاعتماد الكلي في السابق على الاجتهاد البشري المجرد، نظرا لعدم توفر أي آلية أخرى تساعدهم، فعندما اشترط الفقهاء عدالة الشهود مثلا، استنادا للأدلة الشرعية كقوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، لم يكن لديهم وسيلة لمعرفة العدالة سوى علم القاضي، حيث كانت المدن صغيرة والناس معدودين، أو طلب المزكّين، بينما اليوم تتوفر الوسائل الحديثة والأكثر دقة لوصف العدالة، بالإضافة إلى ضرورة مراجعة بعض المفاهيم في نظري.

بداية يجب أن نستند إلى الأصل المعروف، وهو أن الأصل في الناس العدالة، ولا يمكن الطعن أو التزكية لعدالة الشهود بناء على مظاهرهم التي كثيرا ما لا تعكس الحقيقة، كما أن حقيقة اشتراط المزكين لم يكن إلا بسبب عدم توفر طريقة أخرى لمعرفة العدالة للشاهد قديما. ولن يعجز أفسد الخلق اليوم عن إحضار من يزكيه ظاهرا وباطنا – كما يعبر بعض الفقهاء-، وطالما أن المزكي يدخله الشك ويستوي فيه الظن والوهم في العدالة، فما أدري ما قيمته؟ وإن كان الاشتراط هو مزيد احتياط من مؤسسة القضاء في العدالة، ولكن في الحقيقة أن هذا الاشتراط قد يفوت الكثير من العدالة أيضا، فقد لا يقبلها الكثير من الشهود لما قد يراه تشكيكا في عدالته، وربما يقال إنها طريقة تقليدية قديمة غير متوافقة مع مستجدات العصر، وأعرف الكثير من الوقائع التي يرفض فيها الشهود أداء الشهادة بسبب طلب إحضار مزكيين اثنين لكل شاهد، كما أن بعض الأجهزة المهنية قد ترفض أحيانا عندما يأتيها طلب الشهادة مع المزكين، الذي كثيرا ما لا يقبل الشاهد هذا الأمر، وسأعود إلى موضوع المهنيين لاحقا.

يجب إعادة النظر في؛ ما هي العدالة التي يشترطها القضاء؟ فهل يكفي صلاة الرجل في المسجد مثلا أو مظهره المتدين؟ أم أن الأمر أوسع من ذلك؟ في نظري أن العدالة لا تقتصر على التدين، فكم من شخص ربما غير مسلم حتى، إلا أنه أمين وصادق، وكم من ظاهره التدين وهو يأكل أموال الناس بغير حق! ولذلك يقول الحنابلة في المزكّي: "لا يُقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة"، بمعنى أن المزكي يجب أن يعرف باطن الشاهد (أفعاله الخاصة) وتاريخ تصرفاته، وهذا بلا ريب هو ما يمكن الوصول إليه من خلال الوسائل التقنية التقريبية، وبها يمكن معرفة سجل الإنسان السابق منذ نشأته إلى حين الشهادة، حيث يمكن السعي في إنشاء أساس معلوماتي باشتراطات معينة، قد يكون ما لدى مركز المعلومات الوطني أساسه، يضاف إليه بعض التصرفات المدنية التي قد لا تدخل في حفظ السجل المدني لدى المركز، وبهذا يتم التأكد الفعلي من الشهود كما تفعل البنوك عند التأكد من الحال الائتماني للمقترض. ويمكن الاستدلال لذلك أيضا بأن علم القاضي كافٍ في عدالة الشهود بالاتفاق، ويسقط معه اشتراط التزكية، وهو هنا أولى، فمهما عرف القاضي الشاهد؛ فإنه قد يخفى عليه الكثير. وبهذا يكون الأمر متوافقا مع العصر، ويمكن للقاضي معرفة ما إذا كان الشاهد لديه سوابق وهل عليه دعاوى مطالبات مثلا وهكذا. هذه الطريقة ستكون أكثر دقة بلا شك، والأصل في الناس العدالة إلا في حال طعن أحد المتداعين في الشهود وذكر بينة على ذلك، عندها يبحث القاضي فيها.

أعود لطلب تزكية المهنيين من ضباط وأطباء ومهندسين وهكذا، حيث إن أصحاب هذه المهن المحترمة غالبا ما يكونون من ذوي العدالة والاستقامة، كما أن طلب التزكية منهم فيه شيء من الامتهان، بالإضافة إلى أنه في حال تم ارتكاب أي مخالفة جنائية؛ فإن النظام يمنعهم من ممارسة مهَنهم، مما يُقوي عدالتهم. وهذا ينطبق حتى على مهنة القضاء، فمقتضى العدل أن تطلب منهم المزكين كغيرهم من المهنيين طالما تشترطه، ولو توفر للقاضي الربط الآلي آنف الذكر لكان ذلك كافيا.

ولذلك نجد أن مجلة الأحكام العدلية عاملت أصحاب المهن بطريقة مختلفة، حيث في المادة 1717 ذكرت أن تزكيتهم تكون من الجانب الذي ينسبون إليه، فاشترطت التزكية المهنية فقط. وإذا كان القضاء لا يقبل تعديل مؤسسات البلد فما أدري في مَن نثق؟ خاصة مع توفر الوسائل الأخرى السابق ذكرها، وهذا ما يُفترض أن يُسمى بالموثوقية المهنية. وفي حديث صححه الأرناؤوط، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لسعد وهو مريض: (إنك رجل مفؤود، ائت الحارث بن كَلَدة أخا ثقيف، فإنه رجل يتطبب)، بالرغم من أن الطبيب الحارث لم يكن مسلما على الأرجح، وهذا نوع من التعديل والموثوقية في صاحب المهنة. فلا يليق طلب التزكية على ضابط أو طبيب ونحوهما في نظري، وقد وثّقتهم أجهزتهم التي انتدبتهم لذلك، كما أن وظائفهم تشترط عدالتهم أصلا، إلا في حال ظهر للقاضي شيء أو طعن أحد المتداعين فيهم.

الموضوع يحتاج إلى مزيد من البحث، وكنت أتمنى بحثه أكثر من الجهات القضائية، وقد صد قرار مؤخرا من المحكمة العليا بخلاف هذا، مع إجلالي لأصحاب الفضيلة وإدراكي لعمق معرفتهم، وهم بلا شك أعلى مني منزلة وعلما، إلا أنني أتمنى إعادة النظر في هذه القضية.