يبدو أن هناك من يحتاج مع كل تقنية أن يرافقها ميثاق أخلاقي يخبره كيف يتعامل معها بشكل إنساني؛ ويبدو أن أكثر جهاز مرعب لوعينا هو آلة التصوير لأنها تنقل الواقع أو أجزاء من واقعنا الذي نخشى أن ينكشف أو يشوه، فكم من مقطع صور عرضا وعرض قصدا أطاح بمسؤول أو خلق مشكلة أسرية!
من قضايا التصوير المزعجة تصوير الأطفال بأوضاع قد تسبب لهم نفورا أو سخرية اجتماعية أو تخلق لهم أزمة؛ فقد عرض برنامج تلفزيوني على إحدى الفضائيات صورة طفلة في العاشرة مع والدتها تعانيان من والد مدمن يسيء لهما، ومع الشكر للبرنامج على إلقاء الضوء على حالة الأسرة السيئة إلا أن مثل هذا المقطع قد يجعل الطفلة عرضة للتهكم في محيط صديقاتها في المدرسة، وستكبر بالتأكيد وتتألم لأنها ظهرت يوما بصورة البنت المعنفة على الملأ، وكان من الممكن إخفاء ملامح وجهها وهو المعتاد في قنوات تحافظ على حقوق الطفل عربيا أو غربيا!
في وزارة التربية والتعليم اتخذ قرار ممتاز يمنع اصطحاب أجهزة الجوال للفصل وكان سببه ظهور أكثر من مقطع لطلاب وطالبات صغار السن في حالة تعنيف وبكاء والسخرية منهم وتهديدهم أثناء التصوير، وهذا لا يليق حتى بدون تصوير فكيف والجاني والجانية مربيان يصوران جنايتهما بمنتهى الاستخفاف؟!
صورة أخرى من داخل المدارس ساعد عليها وجود مواقع التواصل بالجوال وهي تصوير الخطأ المضحك في بعض أوراق الإجابة؛ ومثل هذا السقم بدأ يظهر قبل الاختبارات وقد يكون بعضها مكذوبا أو مسيسا أو موجها ضد فريق ما من جهة، ومن جهة أخرى الطالب الصغير شديد الحساسية غالبا يخاف أن يتم تصوير أجوبته الخطأ، وقد لا يجيب، فنحن نتعامل مع عقليات أطفال ومراهقين على مقاعد الدراسة لا أكثر.
ويبقى في مجتمع محافظ مثل مجتمعنا تصوير النساء مشكلة وكارثة تثير رعب المجتمع؛ فقبل سنوات ومع دخولنا العوالم الافتراضية هزت قصة تصوير داعية وتركيب صورة وجهها على جسد فاضح مجتمع العالم الافتراضي لدينا، وأذكر سيدة لطيفة علقت قائلة "يعني يصوروني ويحطون لي جسم الفنانة فلانة؟ يا سلام"!
اختصرت تلك السيدة المخاوف بمواجهتها بالإعجاب والاستخفاف، ويقال إن الداعية قالت لن أتوقف وفعلا استمرت لليوم.
في الطفولة كنت أتلقف من أفواه النساء حكاية مرعبة عن خطر التصوير، وهي أن فتاة صورت نفسها ووضعت صورتها تحت السجادة ونقل أهلها من المنزل ونسيت الصورة تحت السجادة، حتى سكن المنزل شباب عزاب فوجد أحدهم الصورة وادعى أنها صديقته، وكانت البنت قد تزوجت وزوجها صديق للعازب الذي وجد الصورة ورآها الزوج مع صديقه، وطُلقت الزوجة!
طبعا القصة المرعبة مختلقة من خيال مملوء بالوساوس ولها مغزى واحد وقتها هو: أيتها المرأة لا تلتقطي صورا لك حتى لا تقع صورك بيد من يستغلها!
بدأت عبارة ممنوع اصطحاب جوال الكاميرا تختفي من دعوات الزواج بعد أن أثارت هذه العبارة الكثير من الحساسية والمشاحنات وأدت إلى إلغاء زفاف بسبب التصوير، وهذا أنموذج لرفض الجديد خوفا من إساءة من يحمل مثل هذه الأجهزة؛ اليوم اختلف الوضع كثيرا ربما لأن مفعول الكاميرا لم يعد بأهمية ما يحويه الجهاز أصلا من مغريات مواقع التواصل التي تشغل حاملته عن متابعة ما يدور في الحفل!
مقاطع التواصل قلبت الآية فأصبحنا نجد مقاطع مخجلة ومقاطع غير مفهومة قد تعتمد على ترديد كلمة مرارا وتكرارا كما فعل صاحب (السمبوسة)؛ وهي نقلة من الإفراط للتفريط ومن الخوف للابتذال، وقد فسر الدكتور عبدالرحمن الحبيب في ورقة قدمها في حلقة الرياض الفلسفية مثل هذه السلوكيات بأن غرضها الحصول على شهرة تستخدم لأغراض إعلانية!
كتبت مرة موضوعا عن فتاة تلازم كرسيها المتحرك تكره الخروج من المنزل لأن نظرات الناس تلاحقها في كل مكان، الموضوع اعتمدت فيه على كلام أختها معلمة الإنجليزي التي قالت: (أرجوكم لا تنظروا للمقعدين فأنتم تحرجونهم بنظراتكم وتزيدون صعوبة الحياة والحركة عليهم).
تصوير نقاط ضعفنا البشري يشلنا ويربكنا أيضا لو تم من غيرنا، فهو أشبه بمن يضغط على جرح مؤلم ويسأل صاحبه هل يؤلمك؟ ويستمر يضغط ويسأل ويعجب!
التصوير عدوان على حرية الآخر لو كان بدون رضى منه أو في وضع محرج له، وجريمة إنسانية لو رافقه تهكم أو أضرار لاحقة، من ذلك تقديم المساعدة لعامل وتصوير الإحسان وهذا الفعل ينقل صاحبه لمرتبة المن والأذى، وحتى ندرك ذلك لنضع أنفسنا مكان ذلك العامل الذي يبتسم بخجل، مكره أخاك لا بطل!
ومن أبشع المواقف تصوير الحالات الإنسانية التي تحتاج للمساعدة كمصابين بحادث سيارة أو حالات الغرق، مثل هذا السلوك يحتاج أن يدان ويُجرَّم صاحبه لأنه يفتقر لأبسط معاني الإنسانية وربما اقترب فاعله من أن يكون شخصا ساديا يتلذذ بآلام غيره!
أحدث مواقف التصوير المضحكة المحزنة تصوير مجموعة سيدات مرتديات النقاب في مهرجان صيفي واعتبار قناة إلكترونية أن وضع إحداهن للحناء عمل غير لائق وكأنها لا تدرك أنه تعدٍ على خصوصيتهن!
أخيرا للقضاء على مثل هذه الظاهرة خصوصيتنا تحتاج لخصوصية.