قبل سنوات وبعد مناقشة مجلس الشورى لتراجع ترتيب الجامعات السعودية في التصنيفات العالمية؛ برزت حركة هائلة في الجامعات الرئيسة لمحاولة رفع ترتيبها في تلكم التصنيفات، وذلك بالعمل على محاور عديدة، بيد أن ذلك الحراك كان لفترة قصيرة، لأن الهدف الرئيس كان رفع الترتيب بغض النظر عن تأسيس وتطوير منظومة علمية ترفع نفسها بنفسها!

أغلب التصنيفات تعتمد على كمية النشر العلمي لأعضاء هيئة تدريس الجامعة، وبالذات في المجلات الدورية ذات الوزن العلمي المحترم، بالإضافة إلى معايير أخرى كمحتوى الموقع الإلكتروني، ونسبة الطلاب إلى أعضاء هيئة التدريس وغيرها من المعايير المختلفة، فكان أن عملت بعض الجامعات على الطريق الأسرع وهو النشر العلمي، وبالطبع فإن النشر العلمي الحقيقي يحتاج وقتا طويلا واستثمارا هائلا، فكان المخرح السهل لتجاوز معضلتي الوقت والجهد هو: استقدام "الأبحاث" كما نستقدم العمالة المنزلية، فظهرت برامج من نوع "عالم نوبل" و"مراكز التميز"، و"تمويل الأبحاث عن بعد"!، والهدف النهائي كان إضافة اسم الجامعة السعودية في الورقة العلمية التي ينشرها الباحث الأجنبي، بهدف زيادة عدد الأوراق العلمية التي تسجل باسم الجامعات السعودية، حتى إن لم تكن تنشر من قبل علماء الجامعة المنتسبين لها، أو تنجز في حرمها!

أما الخطوة الأخرى فكان التوسع المهول في كراسي البحث العلمي، التي حظي بعضها بتمويل سخي من الجامعات نفسها، وبعضها بتمويل "إعلامي" من بعض رجال الأعمال المشاهير، حتى وصل عددها في إحصاء حديث إلى: 238 كرسياً علمياً في كافة الجامعات السعودية! وبالطبع ففكرة كراسي البحث رائعة ومميزة، وتقليدٌ معروف في أعرق الجامعات العالمية، بل كانت موجودة هنا في شرق المملكة منذ سنوات طويلة، في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولكن دون "هياط" أو "بهرجة" إعلامية كما حصل من الجامعات الأخرى، ومن المعروف أن المقصد الأساس من إنشاء أي كرسي بحث علمي هو البحث العلمي المتخصص، بحيث يشرف عليه بروفسور "أستاذ دكتور" متخصص في المجال، ليعمل هو وفريقه الشاب على حل المعضلات العلمية ذات العلاقة مع توفر الدعم المحدد بأهداف ومجال عمل الكرسي، دون إغفال دعم مشاريع أبحاث طلاب الماجستير والدكتوراه في المجال نفسه، وليس كما حدث بتحويل كراسي البحث العلمية إلى أقسام علمية أو جمعيات مصغرة، فصارت الكراسي تعقد الدورات العلمية والبرامج التدريبية، وتصدر المجلات والنشرات، وتنظم الرحلات والزيارات الخارجية، بل إن بعضها خرج إلى خارج الجامعة بالعمل في برامج خدمة المجتمع والبرامج التطوعية! وابتعد عن الهدف الحقيقي لإنشاء الكراسي العلمية وهو البحث العلمي أولا وأخيراً.

غياب البوصلة العلمية أدى إلى انحراف عمل الكراسي البحثية عن مسارها الأساس، وتحوّل كثير منها إلى مصدر رزق إضافي لفريق الكرسي بداية من الأستاذ المشرف على الكرسي إلى اللجنة الاستشارية إلى أعضاء برامجه المختلفة، بل صار من الطبيعي أن يحصل الفرد الواحد على أكثر من مكافأة واحدة من نفس الكرسي في آن واحد! مما جعل الكراسي مجرد قناة تعويضات إضافية لأعضاء هيئة تدريس الجامعات، بالإضافة إلى ما يحصلون عليه من رواتب وبدلات متنوعة، وأضحت الكراسي فرصة لمكافأة الأصدقاء والأحباء، إذ إن الكراسي العلمية في بداياتها بقيت دون أنظمة مالية تحكمها!

أما ثالثة الأثافي فهي سيطرة المتنفذين في كل كلية على الكراسي البحثية فيها، حيث تجد غالباً أن الأستاذ المشرف على الكرسي إما رئيس قسم أو عميد كلية إلا من رحم ربي، فكيف يستطيع هذا الإداري والمتخم بالمسؤوليات المتعددة الإشراف الحقيقي والعلمي على كرسي البحث؟ والأمر ليس مجرد إدارة وتوجيه بقدر ما هو إعمال للعقل وجهد علمي متواصل في البحوث نفسها، وفي توريث الخبرات والمهارات للباحثين الشباب، فهل يستطيع عميد كلية أو حتى رئيس قسم أن يتفرغ أصلاً لتقديم محاضراته الدراسية لطلاب البكالوريوس، فضلاً عن إشرافه على كرسي بحث علمي متخصص؟

بالطبع وبعد مرور سنوات قليلة بدأت تتضح مشاكل وسلبيات الكراسي العلمية، التي لم تنشأ بشكل علمي صحيح، ولم تتطور بشكل طبيعي ومتدرج، ولم يهتم أحدٌ ما بآلية استدامة عملها، بعد انتهاء التمويل أو تغيّر الباحثين، فكانت أن تراجعت بعض الجامعات عن كراسٍ علمية كانت قد أعلنت عنها في كل مكان، وأوقفت عملها تماماً، كما هي الحال في جامعة الملك سعود، التي قادت حملة الهوس بالكراسي العلمية، إذ أوقفت الجامعة حتى الآن 22 كرسياً بحثياً من أصل 130 كرسياً فيها، بعدما ثبت أن بعض تلك الكراسي لم تعمل أبداً أو لم تف بالحد الأدنى من المتطلبات الخاصة بالكراسي! والله وحده يعلم كم عدد الكراسي المتوقفة بشكل حقيقي منذ سنوات في الجامعات الأخرى.

وهكذا وبعد مرور سنوات عديدة على فورة الكراسي العلمية ألا يجب على وزارة التعليم العالي أن تعمل على تقييم التجربة بشكل محايد، وأن تدرس مدى الاستفادة منها، ومدى نوعية وجودة البحوث التي نتجت عنها، بل ونوعية ومستوى المجلات التي نشرت بها، وما مدى تكرار الاقتباسات العلمية منها، حتى نستطيع القول إن هذه الكراسي العلمية كانت إضافة معتبرة لمنظومة التعليم العالي في المملكة، وليست مجرد قناة لصرف مزيد من الأموال للأصدقاء والأحباء!

وبعد، تبقى فكرة وجود كراسي بحث علمية متخصصة فكرة رائدة ومهمة في التعليم الجامعي في العالم المتقدم، ويمكن الاعتماد عليها بالعمل الجاد والمركز على القضايا الملحة في مجتمعنا، ولكن بشرط أن يبقى كرسي البحث كرسياً للبحث العلمي فقط، هنا نستطيع القول بأننا على الطريق الصحيح نحو حلول علمية لمشاكلنا، ونحو نشر علمي يرفع من مكانة جامعتنا بشكل حقيقي ونزيه، والله الموفق.