مهما كثرت السجالات والطروحات والمرئيات حول "الكتاب" ومكانته المعيارية والتصنيفية، فسيبقى الشريان الذهني والمقروئية المتعالية والمؤثرة في البناء المعرفي، والمعطى الفكري والطفرات التكوينية للوعي الجمعي، ولكن الإشكالية تكمن في كيفية التعاطي مع الكتاب، والاهتداء المنفتح مع هذا الكائن الحي، وإزالة التخثرات المعطوبة والصادمة وتبصير الآخرين بدوره وسلطته المرسلة، واستجابته العريضة لتوصيل الأفكار ورجحان المدرك فيه من ذخيرة الوعي وجوهر المعرفة، وقفت أمام مشهدين عرفت من خلالهما أن هناك معضلة واهتراء وفوارق حضارية، بين سلوك صاعد وراسخ وسلوك ملفوظ ومستهجن، من حيث المواقف والاتجاهات في المراوحة والتعامل مع الكتاب، المشهد الأول يروي قصة قارئ ألماني، استعار كتاباً من المكتبة العامة قبل قيام "جدار برلين" والذي فصل شطريّ المدينة لمدة ثلاثين عاماً تقريباً، وتعذر عليه إعادة الكتاب إلى المكتبة، وبعد تفكيك الجدار وسقوطه عام 1989، تمكن ذلك القارئ من إعادة ذلك الكتاب بعد أن احتفظ به ثلث قرن، والمشهد الثاني ترويه صحيفة "مكة" عن العجوز البريطاني "رون وبيستر"، الذي كان طالباً وباحثاً مساعدا في جامعة "ليفربول" عندما استعار كتاباً من مكتبة الجامعة في عام 1953، غير أن الطالب المجتهد أعجب بالكتاب وقرر الاحتفاظ به، وعندما بلغ "رون" من العمر 91 عاماً قرر التخلص من مكتبته القديمة، فعثر على الكتاب الذي استعاره وقرر إعادته للجامعة، وهناك وجد غرامة بنحو 7000 دولار أميركي تنتظره لأنه لم يعد الكتاب في الوقت المحدد، وقال له أمين المكتبة: "لقد أرسلنا لك عددا من الرسائل والإنذارات التي تدعوك إلى إعادة الكتاب، لكي لا تضطر لدفع غرامة كانت تتراكم وتتضخم عاما بعد عام، حتى بلغت آلاف الدولارات بعد ستين سنة"، ويواصل أمين المكتبة حديثه قائلاً "بعد حديث طويل ومشوق مع الطالب العجوز، قررت إدارة المكتبة إسقاط الغرامة عنه مع تعهد بأنه لن يكرر الأمر ثانية"، تأملت المشهدين السابقين وتذكرت صور المعاناة التي طالتني وطالت موظفي المكتبة العامة بأبها، عندما تحملت عبء إدارتها قبل سنوات، وما كان ينزع إليه "بعض" روادها من سلوكيات اعتباطية وذرائع ملتبسة، فأحدهم أشعره موظف المكتبة أن النسخة التي أمامه من الكتاب يصعب إعارتها، لكونها نسخة "وحيدة" وعليه تصوير ما يريده من الفصول عن طريق الوحدات التصويرية المتوفرة في المكتبة، ولكن صاحبنا قام بتمزيق الصفحات المطلوبة وإخفائها، والتعامل مع تلك النسخة النادرة كما يعامل الحطاب شجرة "الأثل" والآخر قام بقذف الكتاب المستهدف من النافذة، ليتلقفه صاحبه المنتظر في الشارع المقابل للمكتبة، والثالث استعار مجموعة من الكتب ولم يتمكن من إعادتها، لكونه باع السيارة في "الحراج" ونسي الكتب المعارة في "شنطتها" كما يقول!!.