"المنطقة العربية أمانة في رقبتنا، ونحن قادرون على حفظ الأمانة".. قالها الرئيس المصري خلال الاحتفال بتخريج دفعة جديدة من طلبة الكلية الحربية، ولأن السيسي ابن (مدرسة المخابرات) فهذا يعني أنه "يحسب كلماته ويعنيها، وحين يقول هذه العبارة عقب (لقاء السحاب) مع خادم الحرمين الذي حرص على التوقف بالقاهرة وضرب مع السيسي أروع نموذج لسلوك الكبار.

القراءة الأولى بتحليل مضمون خطاب السيسي تشير إلى كيان عربي كبير يتشكل حاليًا، والحاصل أن علاقات البلدين خلال الأعوام الثلاثة الماضية تجاوزت مرحلة (المشاعر الطيبة) لترتيبات استراتيجية غير مسبوقة بتاريخ علاقات الدولتين منذ مؤسس مصر المعاصرة محمد علي، والمؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود، وهناك بالفعل لجان فنية على أرفع مستوى تعمل بدأب في كافة المجالات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وغيرها، للدراسات العميقة لتعزيز التعاون في شتى المجالات، وتمهيد الطريق أمام محور جديد سبق أن وصفته بمصطلح (1+4) الذي يضم مصر و(رباعي الخليج) بقيادة السعودية، ومعها الإمارات والبحرين والكويت، لتدشين كيان سياسي (سمه كما شئت: محور، تحالف، منظومة.. إلخ)، فالمهم هو المضمون.

كان بوسع "خادم الحرمين" الاكتفاء بالاتصالات التي تجري يوميًا بالرئيس المصري، لكن مغزى (لقاء السحاب) حمل عدة رسائل لعل أهمها أن الأزمات المنفلتة المؤثرة على الأمن القومي العربي تتوافق بشأنها الرياض والقاهرة بعدما بلورت التطورات التي شهدتها الأعوام الثلاثة الماضية حقيقة مفادها: أن التعاون السعودي ـ المصري يشكل قوة يمكنها احتواء الصراعات الإقليمية، بينما علمتنا تجارب سابقة أن الخلافات بين الدولتين تُفرز تهديداً للاستقرار، وهذه ليست رؤية الجانبين فحسب، لكنها حقائق التاريخ.

ثمة رسالة أخرى موجهة إلى "الخصوم المشتركين"، وتحديدًا "التنظيم الدولي للإخوان" ومن يؤازرهم من الغرب والعرب، ولست أبالغ حين أؤكد أن هزيمة "المشروع الإخواني" مصريًا تجاوز حدودها لدول الجوار والبداية بليبيا التي تُشكّل ركنا للأمن القومي المصري، وتؤكد مصادر سيادية مصرية انحيازها الكامل لكافة القوى المناهضة للإخوان في دول الجوار، انطلاقًا من قناعة مفادها أن ملاحقة المشروع الإخواني معركة مفتوحة على كافة الاحتمالات، وبالتالي لن تقف القاهرة والرياض متفرجتين على مخططات تنطلق عبر حدودهما، لكن الرؤية السعودية استشرفت أن التجربة المصرية ينبغي استثمارها سياسيًا حتى تصبح مُلهمة لخيار "الدولة الوطنية" بمواجهة "الأممية الإخوانية" ورعاتها إقليميًا ودوليًا.

هناك أيضًا تناغم للمواقف المصرية ـ السعودية تجاه القوى العظمى، سواء في واشنطن أو موسكو، فرياح التغيير هبت بالفعل لتُعيد صياغة العلاقات على أسس الندّية و"تصالح المصالح" دون افتعال أزمات كما قد يتصور البعض، لكنها "هندسة دبلوماسية" تستهدف تدشين الضلع الرابع في موازين القوى الإقليمية وأقصد إسرائيل وإيران وتركيا، فلدينا المؤهلات والمبررات الكافية.

وهناك أبعاد استراتيجية واضحة لاجتماع الزعيمين تتعلق بالوضع في عدة مناطق مشتعلة تؤثر على الأمن القومي العربي كالعراق وسورية وليبيا وتشمل دورا محتملا للبلدين في محاربة الإرهاب إزاء تهديدات كيانات إرهابية مشبوهة مثل (داعش) لدول الكويت والأردن والسعودية ومصر، فإن محور (الرياض ـ القاهرة) لن يقف مكتوف الأيدي إزاء هذه التهديدات، الأمر الذي أكده وزير الخارجية المصري حينما سألته عن الدور المحتمل لما يحدث ببعض الدول العربية ومكافحة الإرهاب، فأجابني قائلاً: "إن هذه القضايا كانت حاضرة بقوة خلال المباحثات بين زعيمي البلدين، وإن هناك تنسيقا وتوافقا بالرؤى والمواقف والحلول المتوازنة.

وبالطبع فإن الزيارة دشنت تفعيل "مؤتمر المانحين" الذي تبناه العاهل السعودي لمساندة مصر اقتصاديًا، حتى إن واشنطن ذاتها أبدت رغبتها في المشاركة في مشروع "مارشال العرب"، ويجري نشاط دؤوب لتكوين صندوق يتوقع حصول مصر منه على 25 مليار دولار لدعم الميزانية، وخطط تحفيز الاستثمار التي أعلنتها القاهرة.

وأخيرًا تبقى الإشارة إلى ثلاث محطات فاصلة جعلت السعودية ومصر يخـتاران التحالف الاسـتراتيجي، كانت الأولى ثورة الخميني، والثانية حرب العراق وإيـران، والثالثة هي غزو صدام حسين للكويت ومشاركة القوات المسلحة المصرية في تحرير الكويت، وبعدها وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 وشُنّت الحملات الإعلامية الأميركية والأوروبية، بطريقة شرسة خبيثة، ووضع معها الغرب الدولتين في سلة واحدة، فلماذا لا تكون استجابتهما للتحديات قوية وسريعة، وسط "رياح السموم" التي تعصف بالمنطقة؟