كل عام نشهد ونعايش نفس التمثيلية السخيفة، بنفس الوقائع والأحداث التي يُعاد تكرارها حتى الملل، فقاعة صابون تنتفخ وتتضخم ثم تختفي وكأنها لم تكن، تمثيلية تؤكد على أننا ما نزال نستخدم لغة الطبل والمزمار لنملأ المكان بالضجيج حتى لا نستمع إلى أي صوت آخر، الهدف الوحيد هنا أن يخفت صوت العقل والمنطق وترتفع أصوات الطبل والمزمار.

للناظر من الوهلة الأولى سيعتقد أنها حرب ضروس، سيُقسِم أن كل هذا الصراخ لا بد وأن ينهي المشكلة، لكن ما إن يفرك الناظر عينيه حتى يرى الحرب الضروس مهزلة، وأن كل هذا الصراخ ليس إلا عنتريات فارغة ما أفزعت يوما حشرة.

أتحدث هنا عن هذه المعركة حامية الوطيس التي نعيشها اليوم بين: الإعلام العربي المملوء بالرزايا، وبين معارضي التدني الإعلامي النائمين طيلة العام، بين إعلام يتردى طيلة العام ومعارضين لا ينتبهون إلى هذا التدني إلا في رمضان فقط، ليعودوا بعد انقضاء الشهر إلى سباتهم العميق.

لقد كان الإعلام العربي فيما مضى مشغولا حتى أذنيه بكشف المفاتن، وذلك أكبر همه، كان أباؤنا يأمروننا بأن نضع أيدينا على أعيننا لتنتهي المشكلة، أما اليوم وبعد عقود من الصراخ الموسمي في وجه الإعلام، ما عاد يُفيد أبناءنا أن يضعوا أيديهم على أعينهم، فالإعلام العربي ما عاد مهتما بعرض المفاتن إنما بتشويه القيم، وهذه المهمة قد يؤديها المؤدي وهو في غاية الاحتشام وملامحه يعلوها وقار.

إن ما أوصل الإعلام العربي إلى هذا المستوى من الجرأة حتى يسرق روحانية رمضان علانية، ويزرع في المجتمع من القيم ما يشاء، ليست المنظومة التي تعمل خلف الإعلام فقط، ولا جهات وأجندات خارجية فقط، ولا حتى شيطان رجيم، نعم كل هؤلاء مسؤولون، والإعلاميون أصحاب الضمائر مسؤولون، إلا أن المسؤول الأكبر في كل هؤلاء، هو نوم معارضي التدني الإعلامي طيلة العام واستيقاظهم فقط في رمضان؛ ليصرخوا ويملؤوا الدنيا ضجيجا.

المرء منهم يستطيع أن يؤلف كتابا من ألف صفحة، كله شتم في الإعلام العربي، يسرد فيه فضائح وبلايا الإعلام، الأمر سهل بسهولة ملء المكان بالصراخ، نحن لا نحتاج إلى كل هذا، لا نحتاج إلى أن نستيقظ خلال شهر رمضان ونبدأ في إلقاء المواعظ والخطب عن تدني الإعلام، إننا في حاجة إلى عمل مستمر طيلة العام بلا انقطاع حتى يتحسن الإعلام العربي، ويصبح فاعلا رئيسا في صناعة الوعي، ومحافظا على القيم والأخلاق.

إن مشكلة الإعلام ليست في الإعلام بقدر ما هي في أساليب معالجة تلك المشكلة، وها نحن نشاهد ونعيش اليوم أمثلة على هذه الأساليب، بين ساخط يصرخ وشاتم يلعن، وداع إلى مقاطعة، الكل استيقظ فجأة ليُحذِر من خطر الإعلام على روحانية رمضان، رغم أن الإعلام في مشكلة طيلة العام، ومشكلتنا مع الإعلام طيلة العام، ثم نريد أن نحل مشاكل مستمرة طيلة عام بصرخة ساعة؟.

إن مشكلة الإعلام العربي ليست مع رمضان، مشكلته أنه ما عاد إعلاما عربيا، حين فقد كل وسائل المناعة ضد العولمة الإعلامية، أصبح أداة سهلة لزرع القيم الغربية في المجتمعات العربية، بالتالي غدا إعلاما "مؤمركا" ما عاد في استطاعته احترام خصوصية المجتمع العربي وإن أراد.

إن مشكلة الإعلام العربي التي يعاني منها "العولمة" أو الأمركة بمعنى أصح، هي ليست مشكلة خاصة فقط بالإعلام العربي، إنما بالمجتمع العربي ككل، ولصعوبة الحديث عن مشكلة المجتمع العربي مع العولمة في هذا المقال سأختصر بالقول: إن المجتمع العربي اليوم يعيش على الطريقة الأميركية طيلة العام ثم يستيقظ فجأة في رمضان ناشدا الحياة على الطريقة المحمدية!، من الطبيعي حينها أن الذي لم يفلح طيلة العام لن يفلح في رمضان.

خلاصة القول كما ردد الشاعر "نزار قباني": لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية. ها هو إعلامنا يرتدي قشرة الحضارة، ينسخ أردأ البرامج ليُلبي ذائقة جمهور قد عاد إلى زمن الجاهلية، جاهلية تتضح في اعتقادنا بأن مشكلة هذا الإعلام ستحلها اللعنات والشتائم والمقاطعة، وإن حالنا مع الإعلام كحال الذي عاهد الله أن يمتنع عن المعاصي حتى أذان المغرب، كذلك نحذف بعض القنوات حتى انقضاء الشهر!.