دائما ما يكون هناك استخدام موجه لمفهوم "الثقة"؛ فالأفراد يستخدمونه للتبرير في حين، وللتشكيك في حين آخر، بينما تستخدمه الدول كذريعة لتمويه مواقفها، وللتحايل باستخدامه مطية في العمل الدبلوماسي، والذي واجهه ابتسامات وباطنه طعنات والتفافات.

تماما كما الجمال الإنساني البين، والذي تمكنت الأرواح المضطربة من التلاعب به وتحويله اجتماعيا وفق تفسيراتهم إلى قبح، فإن الثقة كشعور إنساني نابع من مزيج: العقل المتيقن، والروح المتحررة، تمكن منها المجتمع وحولها إلى أزمة حقيقية ركيزتها النظر للآخر كعدو، وللقريب كمتآمر، وللنفس كمحفز لكل أوجه الضلال.

عندما أقول بأن الثقة معدومة بين أطراف المجتمع المحيط بنا فأنا لا أبالغ، فانظر لما حولك لتكتشف أن في داخلك جاثوما من التشكك في كل من حولك، فهذا القريب يتصرف بطريقة قد تمس شرفك، وذاك قد يبتسم ليستولي على حقك في ميراث ما، والآخر يزاحمك في منصب تراه لك، والرابع يخطط لقلب نظام حياتك، في وقت تكون أنت في عين الآخرين تماما كما الآخرين في عينك.

في السياسة تصارع الجهات بعضها من منطلق عقلية صراع الجبهات، فكل طرف يحتمي بمتاريس فكرية، بعضها أصيل، وبعضها مصطنع، ولكنها جميعها تلبي حاجة التبرير للذات بأنك صاحب الحق، وبأن الآخر تكوين متحرك يجب الحذر منه وعدم الوثوق فيه، فالدول تنقسم شمالا وجنوبا، والأنظمة الفاسدة تنهار ثم تبنى من جديد بذات المكونات، والجيران تتقاتل من أجل فتات، فتموت ويعود فتاتها ليتسيد المشهد ليقاتل فتاتا جديدا.

التصنيف، والتخوين، والتحزب، والاصطفاف، كلها مظاهر خلقت من جسد الثقة الميتة، فما نراه اليوم من روح عدائية عبر منصات التواصل الإنساني المختلفة، التقليدية منها والحديثة ما هو إلا سطح ذلك المستنقع النتن النابع من أرواح لا ترى إلا نفسها أنموذجا للإنسان الكامل، وهو المرض النفسي الحقيقي الذي ابتلينا به من هذه الرحلة التي نمر بها، والتي يتصادم فيها بشكل مستمر التحضر بالتخلف، فأصبح التحضر مبتلى بكفره بالثقة، والتخلف نكل بوحشية بكل ذرة وحرف ومعنى للثقة في كل شيء، بما في ذلك نفسه الداعشية.