ثمة بحر يهب من الغرب، وجبل يوزع أحجاره وأغصانه وموزه وبُنَّه و"أشجاره" بين شمال وشرق. هناك "سهل" ينشق في جنوبها عن خير وفير، ويتمدد في أطرافها وفي وسطها، وأناس مترعة وجوههم بتفاصيل الحياة وعذاباتها الجميلة وغير الجميلة معا.
وأنت في جازان، لا يمكنك اختيار بداية أو نهاية لها، فكلها بداية ولا نهائية أبدا، مثل حوار مفتوح يتطلع إلى حجة أخيرة.
إنني الآن كمن يكتب في قلبها، فجازان المنطقة، بكل مدنها وقراها وهجرها ذات تاريخ حافل بالعلم والمعرفة والثقافة والأدب.
منذ قرون سحيقة وهي تلد "العباقرة" والمفتونين بلغة السماء الجليلة وتعلمها وحفظها، من غير أن يمنعهم ذلك من النطق بلغتهم الخاصة، فيقدمون أدبا وشعرا وفنا رفيع المستوى، له في كتب التاريخ وشفاه القليل من كبار السن حياة مفصلة ودقيقة، فالمنطقة بأسرها ذات حضور غير عابر وغير عادي في ماضي الأزمنة القديمة.
يغريني التاريخ، ولا شك، برائحته الفائحة بالعظمة وبالأصالة ويدعوني إلى الاغتسال في مياهه الصافية، غير أن هذا المكان سيعبس في وجه كلماتي وسيضيق بها ذرعا، لو سمحت لتلك الرائحة أن تغويني وتستدرجني إلى ينابيعها، دون أن أضيف إليها شيئا من هذه الأنهار الكريمة التي بدأت تجري في جازان على يد أميرها النبيل.
إن الـ"شمس" مهرجان ضوء و"إشراق" كبير، والكتابة مثلها، لا، بل إن الكتابة هي الشمس ذاتها، وهي مهرجان نور و"طهر" واحتفال، فلا تلوموني إن ارتدت سطوري ثياب العرس، ذلك أن من حقي أن أحتفل بجازان، جازان الجغرافيات في جغرافيا والناس البسطاء والبحر البِكر والأدب الرفيع والتاريخ العظيم.
أسعدني جدا خبر تدشين الأمير محمد بن ناصر بن عبدالعزيز، أمير منطقة جازان، ووزير الإسكان الدكتور شويش الضويحي، الأسبوع الماضي، أول مشاريع وزارة الإسكان.
سعادتي بهذا الحدث مصدرها سببان: الأول، هو أن تبدأ وزارة الإسكان أولى خطواتها في الطريق الطويل والمهم لحل أزمة السكن التي تضع أمام بلادنا تحديا صعبا وشاهقا، ليس اجتماعياً فحسب، ولكنه يتعدى ذلك إلى النواحي الأمنية والسياسية والاقتصادية، أما السبب الثاني، فهو أن تأتي منطقة جازان أولا وتسبق كل المناطق هذه المرة في مشروع تنموي كبير بل هو، أي تحقيق مشروعات السكن، أساس التنمية المستدامة ومفتاحها، بعد أن ظلت جازان طوال حقب مضت متأخرة في مشاريع التنمية والتطوير والتحديث.
لكن، والحق يقال، بعد مجيء الأمير محمد بن ناصر، منذ أكثر من عقد، حاكما إداريا للمنطقة السعودية الأكبر والأكثر والأغنى تنوعا جغرافيا وثقافيا، والمنطقة تشهد تناميا وتصاعدا مذهلا، يسابق الزمن في شتى المجالات، كما هي المملكة العربية السعودية في عهد مليكها خادم الحرمين الشريفين "حفظه الله".
تغيرت جازان وصارت أجمل وأرحب بكثير عما كانت عليه قبل ثلاثة عشر عاما، ويمكن إدراك هذا، ليس في مشاهد التنمية القائمة حاليا هناك، ولا في عشرات المشاريع الجبارة التي تتفوق على عقارب الساعة لتكتمل وتعلن عن دخول هذه المنطقة إلى حقبة جديدة من التغيير والإضافة والاستدامة، بل إن أجمل ما في هذا التحول أنه طال المضامين أيضا لا الشكليات والمظاهر فقط؛ أي في المعاني والمباني، ولم أشاهد من قبل الأمير محمد بن ناصر بن عبدالعزيز، بتلك السعادة والانشراح والابتسامة الراضية المطمئنة، كأنما هي كناية عن فرحته بأن جهوده طيلة أكثر من عقد كامل لم تذهب هباء ولا سدى، وأن تعبه وبذله لتطوير المنطقة وإنسانها، بدأ يؤتي ثماره ولن يكون هناك شاهد قوي على ذلك أكثر من هذه الطمأنينة التي تطفح بها وجوه الناس وملامح البسطاء في صورة فريدة منسجمة ومتناغمة.
من حق الأمير أن يسعد بمنطقته اليوم ويباهي بها، ومن حقه علينا أن نشيد بجهوده في التحديث والتطوير والتنمية، وفي النقلة الحضارية التي تحياها جازان، وأن نرفع له "الغتر" و"الأشمغة" نلوح بها له احتراما.
أخيرا يبقى القول: إن الكرة الآن في ملعب الضمير العام والضمير الخاص معا، ضمير الوزارات والإدارات والشركات والمؤسسات، وعلى هذا "الضمير" أن يكون في كامل يقظته وعافيته وحضوره؛ كي يسدد جيدا ويُسكن الهدف في قلب المرمى، أي في شباك جازان، حتى تمتلئ كأسُنا ونشرب جميعا نخب المستقبل.