يقول الدكتور عبدالباسط أحمد علي حمودة، في بحث نشره بمجلة "المنهل"، سنة 1406، معللا تعلق شعراء جنوب السعودية بالأماكن: "وفي تصوري أن ذلك راجع إلى طبيعة الجنوب وسماحته، التي فرضت نفسها على الأدباء... ومثل تلك البيئة تدفع إلى الحب والوفاء الذي يخالج نفوس الأدباء والشعراء، فيعبرون عنه بسحر البيان"، وهو قول لا تخفى أسبابه، يضاف إليه أن جل شعراء هذه الجهات ينتمون إلى مناطق استقرار دائم عبر التاريخ، وليسوا من أهل الارتحال؛ لأن أجدادهم كانوا يحترفون الزراعة، التي تستلزم استمرار الإقامة في الأوطان، مما يجعل تعلقهم بأوطانهم أكثر وضوحا، ولذا فإنهم يستلذون بذكر الأماكن ووصفها مازجين ذلك بآهات الألم، ومشاعر الغربة المكانية، وقد كان شعراء عسير يدركون تعلقهم بقراهم ومزارعهم، وحاضرتهم القرية الكبيرة أبها، ويرون في ذلك باعثا على الشعر. يقول الشاعر علي آل عمر عسيري، في أحد الحوارات: "أحس بالسعادة أنني فلاح شاعر، أو شاعر فلاح.. أعمل بنفسي.. وأتفاعل مع الأرض، وأتحاور مع تفاصيل المعطيات الربانية من حولي.. وأغني لها بلا كلل".

وشعراء عسير ينظرون إلى حاضرتهم أبها بوصفها قريتهم الكبيرة؛ ولذا فإن لكل مكان فيها ذكرى وعبقا، وهو ما يفسر كثرة ورود أسماء أحيائها ومعالمها في أشعارهم، يقول علي آل عمر عسيري في مقطع من قصيدة أنشأها سنة 1404، وعنوانها: "سيدتي تسفر للدهشة":

تأتين طفلة يشع من عيونها الفرح..

تسابق الأطفال

في أراجيح الدوالي..

وتلعب "الكعابا"

وتغسل الهموم

من عيونهم..

وتشظف التعب..

يا ليتني أعود طفلا...

ألعب "المقطار"

في ساحة "البحار"

تهدني شقاوتي..

يسفني الغبار..

وأنت تسفحين

وجهي البئيس

ببسمة "العزاء"

وتجبرين خاطري في لحظة انكسار..

والطفلة قد تكون أبها، أو القصيدة الجديدة، لكن ذكر "ساحة البحار"، وهي الساحة التي كنا نعرفها بأنها: "ساحة مفتوحة في وسط مدينة أبها"، يرجح أن سيدته – رحمه الله ـ ليست سوى أبها.

والقطعة السابقة تدل على وعي الشاعر بشاعرية الأماكن الأليفة، وبأهمية القالب القصصي في القصيدة الحديثة، مع إيمانه بأنه غير مطالب باستيفاء شروط القصة كاملة، ولكنه يلجأ جزئيا إلى الأسلوب القصصي، ليمنح القصيدة خيطا يربط أجزاءها، ويجعل كل معنى متعلقا بسابقه، ليكون – في هذه الحال – أحد العوامل التي تحقق الوحدتين: الفنية، والموضوعية.

رحمك الله يا أبا عبدالرحمن، فكم كانت لك في "ساحة البحار" قصائد وخطب وذكريات وإبداعات، وليتك تراها الآن، فلم تعد "تجبر خواطرنا في لحظة انكسار"!