مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنت أسرد قصة "علوة" الفتاة العسيرية التي كانت هنا قبل أربعين عاما.. ما كنت أريد لها أن تعود لترى كيف التوت ألسنتنا، وتغيرت مصطلحاتنا، وصرنا نتسكع في شوارع اللا هوية، نلتقط من كل شارع مصطلحا، لنضيفه لكومة العبارات الزاحفة إلينا، التي مزقت رئة عسير، فأصبحنا لا نعرف المتحدث إلى أي خارطة ينتمي لسانه، لكن تلبية لدعوة الأستاذ القدير أحمد نيازي؛ لمشاركتي ملتقاهم، فقد أطلت علينا "علوة" في كامل وهج بنت عسير القادرة على إحداث الفرق الذي نشعر به الآن، كيف كانت تساند إخوتها وأبناء قريتها، وكيف أصبحت حفيدتها الآن تتوارى خلف حجاب.

ما كنت أريد لعلوة أن ترى كيف اضمحل "الرفق"، وغشيته سيطرة المادة وسطوة الذات، كنت أشعر أنها ستلومنا كيف حولنا قيمنا إلى حكايات نتلوها في ملتقياتنا، وقصص تسرد في صفحات الكتب، كنت أتخيلها بقامتها الممشوقة وطولها الفارع، مرتدية منديلها الأصفر، وهي واقفة تسألني:

أين توارت فزعة "امصرامة"؟ كيف استبدلوا الناس "دولهم" على البئر بالوقوف في طوابير الكاشير وأمام ماكينات الصرافة؟ لم تُبقِ "علوة" ولم تذر، فقد تأبطت معاني الحياة المشتهاة، وسارت بها إلى ذلك العهد الجميل "عهد كان الرفيق ينشد عن رفيقه والجار يبدي جاره على نفسه" عهد كنا نفرح متى قيل: "الصبح امعيد".

لا أعلم هل أحسد "علوة" على زمنها الجميل وما كانت ترفل فيه من نعائم، أم أبكي زمننا الذي ذابت فيه مروءة الرجال وشيمهم، بل كاد الرجل يفقد صلابته وقوة سيطرته على نفسه حتى أصبح يترنح بين الأجهزة والموائد.

حتى ذلك المساء الأبهاوي، وجدت إخوان "علوة" وقد أضاءت الأتاريك أمكنتهم، وكانت الردودة فاتحة اجتماعهم المبارك، رأيت شايبهم يسترجع تفاصيل شبابه، يرويها بحسرة، وهو يتدرج بكلمات متراصة حميمية، تشبه الرقف في بنيانها وانتظامها، تكاد تفر من عينه دمعة حسرة وأخرى فرحة على الاجتماع الذي نفخ الروح في زمن غشيه ركام النسيان والتهميش.

لن أنسى للقدير الأستاذ نيازي ومن معه من رفاقه النبلاء كيف استطاعوا أن يعيدوا للصف استقامته، وينعشوا مساءات أبها بتلك اللحمة والإخاء الجميل، ولن أكون بعيدة عنهم أساندهم برجاء لكل عسيري تاه في امتدادات الأسفلت أن يعود، يعانق ما تبقى من ماضيه، يرشق الزجاج الذي عزله عن الأرض "بالفرت المتساقط من المداميك"، يغسل روحه من درن المدينة بالانغماس في طرقات القرى المؤدية إلى الحياة.

أيها العسيري، خذ بتلابيب الزمن الجميل، وعاود غرسه في نفوس النشء، ولا تغادر هذا المكان، ابقَ مع نيازي ورفاقه، عمّر معهم صروح القيم والأصالة واحرسوها من العابثين.