الأحداث التي مرت منذ الثورة التونسية إلى هذا الوقت أحداث جسيمة للغاية، وتتضح جسامتها حين ندرك أن القتلى يعدون بمئات الألوف، بمجمل الأعداد التي قتلت في تونس ومصر وسورية والعراق واليمن وليبيا والبحرين، ولا يستهين بهذه الدماء المسفوكة إلا من ترك أحكام الشريعة وراء ظهره، وانتزع منزع الثورية المنسلخة من الدين والأخلاق، فالمسلم يدرك أن سفك دم الرجل الواحد عندالله عظيم، فقد قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لزوال الدنيا ومن عليها أهون عند الله من إراقة دم رجل مسلم"، وقال: "لئن تهدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من إراقة دم رجل مسلم"، فكيف إذا كان القتلى من الأبرياء والمستضعفين، ومن لا ناقة لهم ولا جمل يعدون بمئات الآلاف؟!
هذه هي أعداد القتلى، فكم أعداد الأيامى والأيتام والمشردين؟، كم أعداد المعاقين والمصابين في أنفسهم وأبدانهم؟ كم عدد المرضى والمحطمين؟، كم عدد التائهين الذين تبدلت حالهم من الأمن إلى الخوف، ومن الشبع إلى الجوع، ومن الاستقرار إلى التيه والضياع؟ وكم عدد النازحين الذين يعيشون في العراء، خيام مهترئة، وأمراض مستشرية، ونقض في الضروريات للحياة، وشعور باليأس والإحباط والقنوط.
قد يأتيك من باردي الشعور وأصحاب المطامع والمطامح والفتن من يقول: وهل التحرر بلا ثمن؟، وهل الحصول على الديموقراطية لا يمر عبر الجثث والأشلاء؟، ثم يبدأ ينظر بأن ما يجري طبيعي في حركة التاريخ، وأن هؤلاء وقود الحرية وطريق التحرر، وهو بنفسه لا يطيق أن يرى ولده تصيبه حرارة خفيفة، ولو مرضت زوجته لم ينم تلك الليلة، وتراه من المخلفين عن ميادين القتل والقتال، ولكنه على استعداد أن يضحي بآلاف مؤلفة من الناس في سبيل تحقيق أيدلوجيته السياسية أو مطامعه المصلحية الخاصة؛ حتى ولو كان على جثث الأبرياء من المسلمين.
إن دول الخليج العربية ماتزال في منأى عما يحدث في المنطقة، ولكن الأحداث تشير إلى أن ما يجري على غيرنا قد يجري علينا إن لم نتعظ ونعتبر ونعمل العقل، بدلا من هياج العاطفة وفوضى الثوار، خاصة حين نجد حركة منتظمة لـ"تثوير الشعور العام" وتهيئته حتى تمر منطقتنا بما مرت به البلاد الأخرى، وحتى ندخل في حالة من الاحتراب والخلاف والشقاق والدماء، وهذا أمر أجزم أن كثيرا من أصحاب المشروعات السياسية الداخلية والخارجية يتمنونه ويسعون إليه، وأن الأحداث المحيطة بدولنا الخليجية ما هي إلا للوصول إلى هذه المرحلة من تهيئة الناس شعوريا ونفسيا لذلك، وما مواقع التواصل الاجتماعي إلا خير شاهد على حركة "التثوير الشعوري"، الذي يوصل الناس إلى حالة من الغليان حتى ولو كانت أحوال كثير منهم مستقرة، وأمورهم الحياتية في وضع حسن ومتميز.
إن أهل "الفتن" لا يقولون باطلا محضا، ولكنهم "يلبسون الحق بالباطل" حتى يصلوا في النهاية إلى الباطل، فلم يدع أحد لا من الحكام ولا من المحكومين أننا مجتمعات ملائكية فاضلة، لا فساد فيها ولا مشكلات بنيوية ولا أزمات في مجالات عدة، فنحن كمجتمعات خليجية حالنا كحال كل مجتمعات الدنيا فينا خير وفينا شر، فينا صلاح وفينا فساد، فينا مصلحون وفينا مفسدون، فينا تميز وفينا ثغرات، فينا دعاة للخير وفينا دعاة على أبواب جهنم، وهذه سنة الله في خلقه: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، ولكن المشكلة في استخدام الأخطاء سواء من المسؤولين أو من الشعوب؛ لتكون ذريعة إلى تدمير كل شيء والقضاء على كل شيء، فهذا هو السوء بعينه وهي الفتنة بعينها، ولذا تجد كثيرا من أصحاب الأغراض يخاطبون الحكام من خلال مخاطبة عامة الناس، والنتيجة في النهاية هي إخراج الناس من حالتهم الطبيعية إلى حالتهم الثورية الناقمة المنتزعة من العقلانية وتقدير المصالح والمفاسد، حتى يقعوا في فخاخ أهل المشروعات الكبرى، الذين يرون في توتير العلاقة بين الحاكم والمحكوم والضخ في هذا المسلك سبيلا إلى إحداث الفوضى التي تقضي على الأخضر واليابس، ويفقد الناس مصالحهم واستقرارهم وأمنهم، حتى ولو لم تكن حياتهم مثالية جدا، فكيف إن كان الغالب في حياة المجتمعات الخليجية الاستقرار وتوفر الضرورات ومشروعات الإصلاح المبشرة بالخير، مع وجود بطء وبيروقراطية وتعثر، إلا أنها ليست بالسوء والمستوى الذي يصوره البعض، ويضغط بهذا الاتجاه ليؤجج العواطف تجاه المسؤولين والحكومات.
إن أخطر ما يفعله أهل الفساد والإفساد في هذا الوقت، هو التشكيك في نوايا كل من يقف أمام هذه المشروعات، ويرونه من أصحاب الأغراض الخاصة، ويشوهون صورته بإقناع الناس بعدم صدقه في حمل فكرته، حتى ينفرون الناس منه ويضربون عليه صورة نمطية سيئة؛ لتكون كلمته مرفوضة حتى ولو كان أنقى قصدا وأقوم سبيلا من أصحاب التثوير الذين يسعون للفتن في الصباح والمساء.
إن كثيرا من الناس لا يدرك خطورة ما يقدم عليه حتى يقع الفأس بالرأس، حينها لا يستطيعون لملمة واقعهم ولا إرجاع صورته إلى ما قبل الفتن والمشكلات، يندمون ولات حين مندم، يعضون أصابع الندم بعد أن يكتووا بنار الفتن هم ومن يحبون، تخرج الأمور عن سيطرتهم، فتدخل أطراف لم يتصورا دخولها في المشكلة، وما علينا في هذا إلا أن ننظر إلى الواقع السوري، لننظر حجم المشكلة وتعقيدها وضراوتها، لندرك مآلات الأمور التي لا يحسب الناس لها حسابا.
إن في توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام شفاء للعليل، وفيها صلاح للحال والمآل، فالأمر بالحذر من الفتن واجتنابها وعدم الخوض فيها، والصبر على ما يصيب الإنسان من نقص في دنياه، والصبر على الأثرة في المال، والاحتساب بالوجه الشرعي الذي لا يؤدي إلى إثارة الناس وتوجيههم للفتن، كلها أوامر نبوية عظيمة صالحة لكل زمان ومكان، وهو ما يحاول دعاة الفتن تأويلها وتحريفها وتشويهها، بل وإنكارها والسخرية منها، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: "سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" رواه البخاري ومسلم، وعن جنادة بن أبي أمية، قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا حدثنا: أصلحك الله بحديث ينفع الله به، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، "أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" رواه مسلم.