"سمرقند، أجمل وجه أدارته الأرض يوماً نحو الشمس". أمين معلوف.
استحضرت هذه الجملة التي كتبها هذا الروائي المبدع - أستغرب أنه لم يمنح جائزة نوبل حتى الآن- وأنا أجوب أزقة مدينة سمرقند، وأقف أمام آثارها التاريخية القديمة بكل عظمتها، حاكية حضارات غبرت، كانت تحكم العالم من هذه المدينة التي يعني اسمها: "قلعة الأرض".
أتيت بلاد ما وراء النهر – كما كان يسميها المؤرخون العرب- قبل ثلاثة وعشرين عاما، في نهاية عهد "البروستريكا" لآخر رؤساء الاتحاد السوفيتي الغابر ميخائيل غورباتشوف، الذي تفكك في عهده، وشهد جيلنا انهيار تلك الدولة الحديدية المترامية الأطراف وفكاك العالم منها. أتذكر تماما عندما وطئنا أرض تلك الدولة؛ كيف كانت صدمتنا بل فجيعتنا أنا واثنين من الأصدقاء في تخلفها.
كنا مذهولين حينها ونحن نرى دولا متأخرة عن الحضارة بحوالي أربعين عاما تقريبا، لا أنسى كيف تلبستنا الدهشة الكبرى وقتما نزلنا ذلك المطار البائس المتهالك، ونحن الذين أتينا وفي روعنا أننا سنلقى دولا حديثة تتقدمنا بمراحل. تلك الجمهوريات التي كانت تنضوي تحت دولة السوفييت المخيفة، التي أرهبت العالم بأسره، وقارعت طيلة سبعين عاما الغرب، ووقفت له الندّ بالندّ. ولعب إعلامها بعقول شباب العالم وألهمهم، ودغدغ مشاعر الطبقة الكادحة والعمال بذلك الشعار الخلاب: "يا عمال العالم اتحدوا".
يتذكر جيلنا كيف أتخمنا تيار اليسار في البلاد العربية بالمدائح والغنائيات في حلمهم الشيوعي الأكبر، وبالتأكيد كان ذلك من وحي حضور السوفييت الفاعل في البلاد العربية، وعلى إثرها نشطت تيارات اليسار والشيوعيين والبعثيين الذين كانت ترعاهم سفارات الاتحاد السوفيتي ببلدانهم، وذكر نتفا من ذلك الشاعر العراقي الجواهري في مذكراته، بل حاولوا حتى هنا في السعودية – باعتراف بعض رموز اليسار- ولكن الله سلم بلادنا منهم، وربما كان اسم "مطشر" الملحق الثقافي لأحد البلاد العربية، اسما حاضرا في ذواكر أولئك المثقفين.
عدت لبلاد ما وراء النهر العام الماضي، وقد غبت عنها قرابة العقدين من الأعوام؛ وأصابتني الصدمة ذاتها، ولكنها بشكل معاكس هذه المرة، فقد أتيتها وأنا أحمل في ذاكرتي تلك الصورة الشاحبة عنها؛ بيد أنها تبددت مباشرة وأنا أرى الشوارع الفسيحة، والفنادق والمطاعم الحديثة، وكثيرا من البنى التحتية الرائعة التي جعلت منها بلادا متمدنة.
سأنقل لكم ما دار في خلدي وما أبحرت به في تاريخنا القديم، وأنا بوسط مدينة سمرقند التاريخية، أحتسي القهوة أمام النصب الكبير للقائد الأشهر الذي غزا العالم، ويطلقون عليه في أوزبكستان "أمير تيمور"، وبالطبع تاريخنا العربي يعرفه باسم "تيمورلنك"، مع نفور وتفصيل شديد لدمويته.
استحضرت هناك ما قاله ابن بطوطة عندما زار سمرقند ووصفها بقوله: "إنها من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالا، مبنية على شاطئ واد يعرف بوادى القصَّارين، وكانت تضم قصورا عظيمة، وعمارة تُنْبِئ عن هِمم أهلها". فيما قال نديده ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" بقوله: "ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب مستشرفاً من سمرقند".
في تلك البلاد قرأت تأريخا مغايرا نوعا ما عما كتبه المؤرخون العرب، واطلعت على وجه آخر للرجل الذي يتحدر من سلالة جنكيز خان القائد المغولي المعروف. تيمورلنك كان مسلما رغم كل مجازره، ولديه علم في الفقه والمنطق، وله مجالس يومية مع الفقهاء والعلماء، يناظرهم ويناظرونه في كثير من مسائل الفقه والفلسفة، ويذكر المؤرخون هناك أن تيمورلنك كان يبيح المدن التي يستولي عليها، بيد أنه يمنع قتل العلماء والفقهاء وأصحاب الحرف، حيث يأخذهم إلى عاصمته سمرقند هناك، ومن بقي كان يبني من جماجمهم حصونا، خصوصا من الذين يستعصون عليه، فضلا على أنه كان عادلا جدا مع شعبه ويسبغ عليهم كثيرا، ويكرمهم بدرجة كبيرة.
يذكر مؤرخونا بكثير من التفجع معركة أنقرة عام 1402م بين تيمورلنك وبين السلطان بايزيد، حيث توقف فتح العثمانيين لأوروبا إثر تلك الهزيمة لجيشهم، وتمّ أسر السلطان بايزيد، حيث اختلفت الروايات في كيفية معاملته، فالبعض يقول إن تيمورلنك أحسن معاملته، بينما يرى آخرون أنه أهانه وحبسه في قفص، فكان يطاف به على القرى والمدن.
من أعجب ما قرأت في قصة هذا القائد، أن منشئ علم الاجتماع المؤرخ عبدالرحمن بن خلدون كان معه أثناء حصاره لدمشق، وقد أورد في كتبه إعجابه بتيمورلنك وتقديره للعلماء، وذكر بعض المؤرخين أن ابن خلدون لما أقبل على تيمورلنك، قال له ابن خلدون: "دعني أقبل يدك". فاستفسر منه تيمور، فقال له: "لأنها مفاتيح الأقاليم"، يشير إلى أنه فتح خمسة أقاليم، وأصابع يده خمسة، فلكل أصبع إقليم! وهذا أيضاً من دهاء ابن خلدون.
ثم قال ابن خلدون لتيمورلنك: "إني ألفت كتاباً في تاريخ العالم". فرد عليه تيمورلنك معاتبا: "كيف ساغ لك أن تذكرني فيه وتذكر بختنصر، مع أننا خربنا العالم؟!"، فقال له ابن خلدون: "أفعالكما العظيمة ألحقتكما بالذكر مع ذوي المراتب الجسيمة".
هناك تاريخ عظيم لنا في تلك البلاد، وهي التي أخرجت علماء كبارا خلدهم تاريخنا، فعن سمرقند وحدها ذكر العلامة نجم الدين عمر بن محمد النسفي السمرقندي ما يربو على ألف من علماء الإسلام من أهل سمرقند، فكيف بباقي تلك المدن التي أقوم بزيارتها هذه الأيام، وأجوب مدنها التأريخية بكل الاستمتاع، فلا أروع من أن تسقط كل ما قرأته عن سيرة أولئك الأعلام على أرضهم هناك، ولا يعرف متعة هذا الجو الخاص إلا من أغرم بالتاريخ.
ثمة قطيعة مع تلك البلاد التي هي في النهاية جزء مهم من تأريخنا الإسلامي، ولربما آن أوان ترميم ما انهدم لنتواصل معها.