تصلح القصة القصيرة التالية مدخلاً إلى السؤال: ما أطر البنية الثقافية التي أذكت في دواخلنا روح الكراهية للأمم والأديان والشعوب، وما المعاملات التي سلبت من عواطفنا جوهر هذا الدين العظيم في التسامح والتعايش وفي رسالته الشاملة المكتملة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

هنا القصة: كنت مع الآلاف ذات صباح قريب مضى على "حواف" الرخام الأسود الذي حفرت عليه أسماء ضحايا أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك عندما شاهدت إلى جواري مباشرة شاباً أميركاً أسمر يضع وردة صغيرة على اسم والده ثم ينخرط في نوبة بكاء، وكان حريصاً أن يبلل اسم والده "المحفور" على الرخام بقطرات من دمعه الغزير، في مشهد بالغ التأثير ومفعم بجوانب الرحمة التي تشترك فيها كل فطرة هذه الإنسانية. وكل القصة تكمن في أنني طلبت منه التقاط صورة لأصابعه على الوردة فوق اسم أبيه، ثم أرسلتها في الحال "تغريدة" بتعليق قصير على منظومة "تويتر".

في ساعة لاحقة من ذات المساء بدأت مراجعة حسابي ورسائلي لأكتشف سيلاً جارفاً من السب والشتم على تلك التغريدة. رسائل خاصة من التشفي ومن الاستهزاء بدموع مراهق أميركي يبكي ذكريات والده الذي لم يكن له من عمل في البرج الشمالي سوى صيانة مصعد. لم يكن والده عميل استخبارات لـ"CIA"، ولم يكن أيضاً قائد كتيبة أميركية في سامراء أو جلال أباد. لا تعلم هذه العواطف المتخشبة التي غمرتني برسائلها المريضة أن برجي تجارة نيويورك قد انهارا فوق أجساد ما يقرب من مئتي مسلم أميركي مثلما لا يعلمون أيضاً أن ذات الأسماء المحفورة على الرخام في "جراوند زيرو" تضم 27 اسماً تشترك في مسمى "محمد".

وحين عدت إلى "وطني" مطلع هذا الشهر، وبعد غياب طويل عن متابعة الأخبار في إجازتي القصيرة الخاصة وجدت أيضاً بعض هذه القصص والحوادث التي تطلب الإجابة عن سؤالي البدهي الابتدائي في رأس المقال: ما هي البنية الثقافية التي ربت في دواخلنا روح الكراهية واستعداء الثقافات والأمم والأديان والشعوب، وقتلت فينا رسالة الرحمة الشاملة المكتملة التي جاءت "آية" شاملة في نصوص هذا القرآن الكريم، ومنهج وحياة المصطفى نبي الإنسانية ورسول الرحمة، وجدت أولاً أن شاباً سعودياً، يذهب لليابان بمحض اختياره وقراره الشخصي في بعثة دراسية ثم يتحول في لحظة يقظة لشحن الاستعداء والكراهية إلى "مطرقة" تهدم التماثيل في معبد ياباني دون أن يدرك خطورة هذا على نفسه أولاً وعلى سمعة رسالة الإسلام الخالدة في (ادفع بالتي هي أحسن).

وجدت في قصة هذا الشاب أنه مبتعث إلى أقصى الأرض ولكن على غير هدي ومنهج آلاف أصحاب النبي الكرام الذين شاهدوا من قبله "أبوالهول" في الجيزة بمصر و"باميان" في أفغانستان وبتراء الأردن وإحفوريات مدائن صالح بالعلا القريبة دون أن تتحول "أفضل القرون" إلى صواريخ ومطارق. هذا الشاب لم يتربَ حتى على أبسط معايير تغيير المنكر في البلدان الإسلامية، فكيف بها خارج هذه الحدود؟

وجدت ثانياً، حين عدت أن "الفضاء" الوطني مشغول بقصة سخيفة عن ديانة مدرب مستقدم لواحد من أشهر أنديتنا ثم وجدت "للفضيحة" أنه حتى الجهاز الرسمي يرسل خطاباً يطلب فيه الإيضاح والتفصيل، في مجتمع يتحول فيه "الفرد" إلى قضية وكأننا لا نعلم أن البلد مليء بكل طائفة وعرق وديانة وجنس وجنسية.

وجدت ثالثاً حين عدت أن "تغريدة" لمتشيخ يرى كراهية متابعة كأس العالم لأنها "نظر إلى أجساد النصارى" قد استأثرت بملايين المتابعة و"الرتويت"، ولكن أحداً لم يطرح لهذا "المتشيخ" ذات السؤال كيف نفعل بعيوننا وأجفاننا في شوارعنا الهائلة المكتظة بكل هذا التباين من الألوان والديانات والملل والنحل؟ كيف نستطيع مثلاً أن نتابع مباريات للأهلي والاتحاد بستة لاعبين من النصارى ومدربين على الخط؟ كيف يستطيع هذا "المتشيخ" أن يعطينا برنامجاً "بيولوجياً" تشتغل فيه أحداث "بالريموت" وكأننا في حفلة "مونتاج" لا في حياة طبيعية؟ كيف يستطيع هذا أن يعطينا برنامجاً "بصرياً" لتطبيق فتواه ونحن نعلم أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام مات ودرعه مرهون عند يهودي في مدينة تعج باليهود والنصارى في أيام حياته؟ وكيف يشرح لنا هذا كيف جلس المصطفى يوم الفتح الأعظم باسطاً رداءه لتجلس بجواره صديقة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد؟ كيف يقرأ هذا رسالة النبي الخالدة إلى نصارى نجران؟ وكيف يستطيع تفصيلها على فتواه؟ انتهت المساحة.