يفرق المفكر والفيلسوف العربي محمد عابد الجابري (1936- 2010) في كتابه الشهير: "نقد العقل العربي" بين أخلاق العقل اليوناني- الأوروبي والعقل العربي؛ ففي الأول تتأسس الأخلاق على المعرفة وفي الثاني تتأس المعرفة على الأخلاق، فتصبح المعرفة لدى العربي (حسية كانت أو اجتماعية) تتمايز بوصفها حسنا أو قبيحا، خيرا أو شرا وتأتي مهمة العقل ووظيفته "أن يحمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح".

وبنهاية معطيات كثيرة ذكرها المفكر الجابري في كتابه خلص إلى أن العقل العربي تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء. وقال عنها: "إن النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضيفه عليه الشخص (والمجتمع والثقافة) صاحب تلك النظرة. أما النظرة الموضوعية (نظرة العقل اليوناني- الأوروبي) فهي نظرة تحليلية تركيبية: تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه".

بقياس ما ذكره الجابري أعلاه مع بقية قراءته التفكيكية للعقل العربي، نلاحظ أنه لم يخرج من جلباب الثقافة الجاهلية التي تسيطر عليها النظرة الشمولية ضمن تفكير جمعي. فالمواطن العربي بنظرته المعيارية للأشياء أصبح يبحث عن وجود "السيد" أو "الخارق" أو "المخلّص" في حياته، مع اختلاف أو حتى انعدام تسميته لهؤلاء الأشخاص بهذه الألقاب. فالبقاء في ظل تفكير شخص آخر يدفع الطرف التابع لملء فراغه الحسي الباحث عن قيمة إيمانية أو فكرية يجسدها شخص ما، وقد يتنازل عن قناعات شخصية مقابل تمجيد "السيد" بقبول وجهات نظره ورؤاه.

حينما جاء الفتح الإسلامي العظيم وتأسس معه منهج ديني واجتماعي لا يبلى أيا كان زمانه أو مكانه، وبظهور الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - كشخصية اعتبارية بشرت بهذا الدين وقادته، اجتمع المؤمنون حوله وأحبوه ونصروه، وأصبح وجوده عليه الصلاة والسلام كمثل خارق يحتاجه العقل العربي حتى اليوم، مثلٍ كافٍ لتتمة مسيرته الإيمانية أو الاقتداء به في أضعف الأحوال.

مع التراكم الزمني والاجتماعي للعصور الإسلامية ظهرت الطوائف والفرق المختلفة وظهر معها المريدون لها الموالون لشيوخ وفقهاء يمثلون هذه الفرق والطوائف. وعودا إلى النظرة المعيارية للعقل العربي، نجد أن الفرد العربي دائما ما يبحث عن رمز لذلك "السيد" الذي يُسلم له بارتياح ودون وجل أو جدل عقله وتفكيره وينافح بكل ما أوتي من قوة ويقين عن الفرضيات والمسلمات التي يراها ذلك "السيد" بل قد يأخذ هذا النضال صورة عنيفة تحول دون مساس تفكير المخلص المفترض ولو كان سقيما.

هذا المشهد من العلاقة النمطية بين "المريد والسيد" حاضر بقوة في الساحة الاجتماعية العربية – السعودية. فكثير من "الدعاة" يرون أنفسهم فوق اعتبارات النقد والمساءلة ويؤمنون قبل مريديهم بأنهم المخلصون للعامة البسطاء والمرشدون لهم ولو خالطت أهواؤهم الحقيقة. وبالمقابل نجد ذلك "المريد" الخاضع "لسيده" ينساق خلف رؤاه وقناعاته الشخصية والفقهية دون أن يُمرر الأمر على ما ميزه الله به من عقل واختلاف ديني يتسم بالإنسانية والتجدد.

حينما يظهر أحد المحسوبين على الفقه الإسلامي والداعين له يخاطب "التابعين" له بقوله: يا "أمتي" وهو ينتفخ غرورا وثقة أن هناك من يعد نفسه فعلا تابعا في أمة الانقياد الأعمى للآخر الرمز. لا يجد الرمز هذا وأمثاله حرجا من استخدام خطاب التعبئة فتأتي خطبهم ومواعظهم مدججة بالتحريض والتشكيك، تُساق بنبرات صوتية عالية مبالغة في الحماسة التي ينقاد لها من يفقد اقتناعه بالإساس فيما يقول ويعد الخطاب العالي وسيلته المثلى لتمرير أفكاره.

خطاب التحريض والكراهية الذي شاع منذ عشرات السنين في مجتمعنا، والمحمل برائحة الموت ونبذ الفرح ووسائله، هو السبب في انضمام عدد من أفراد المجتمع تحت لواء الجماعات المتطرفة دعما ماديا أو معنويا أو حتى عاطفيا دون الشعور بالضير. وهو الذي جعل شريحة أخرى منه تستسيغ دون مبرر إقصاء من يخالفهم في دينهم ومذهبهم وأفكارهم، إقصاء مؤذيا دمويا في بعض المواقف. ولا نستغرب معه أن نجد العشرات يشارك دون وعي في وسم قضية إنسانية، كمقتل مبتعثة سعودية مؤخرا في دولة أوروبية، يشارك شامتا ساخرا مما حدث ومرددا مع بقية الجوقة ما لقنه له أسيادهم وأفهموهم أنه من الدين.

مع اقتراب شهر رمضان المبارك سنلاحظ - كالمعتاد منذ سنوات - تسابق الناس على البحث عن فتوى تجيب عن تساؤل قد تكون الإجابة عنه بدهية لا تحتاج لوسيط بين السائل والمعني بالسؤال، ولكن لأن أنفسهم اعتادت على أن تركن على ما يقوله الآخر لا ما يقوله صوت عقله ولا ما تنساق إليه فطرته الطبيعية السليمة التي فطر الله الناس عليها.

الخلاص من التبعية العمياء التي تكبل إعمال التفكير وتجربة التحرر من قيد رؤى الآخرين، الذي يحد من انسجام مجتمعاتنا العربية ودولها من التطور والسعي لتنمية مستدامة ينهض بها فكر الإنسان ومعرفته، المعرفة التي تؤدي لأخلاق وسلوك حضاري واعٍ للقيم الإنسانية الفردية والجمعية، تجربة جدير بكل شخص أكرمه الله بنعمة العقل أن يجربها ويخوض لذة اختلافها وجمال الانتصار للعقل فيها.