الآن، حين أفكر في سبب اعتزال متابعة الكرة السعودية، أقول: ربما كان الأمر من باب الحفاظ على الصحة، تجنبا لأمراض الضغط والسكر والقولون والأمراض النفسية؛ ولأنني ما عدت قادرا على التعلق بالأمل أكثر، ما عاد في استطاعتي أن أتتبع أخبار الفشل تلو الفشل، ممنيا النفس بالنجاح ولا نجاح في الأفق.

هذا جانب من الحقيقة، وللحقيقة ألف وجه، أحد تلك الأوجه أنني فقدت حلاوة متابعة الكرة السعودية، فقدت شغف تشجيع المنتخب السعودي، فقدت كل هذا في اللحظة التي فقدت فيها الكرة السعودية رونقها وما عادت لها هيبة، في اللحظة التي بدأت فيها الأندية ترفع شعار "نفسي نفسي"، حيث مصلحة النادي تعلو على مصلحة المنتخب، في اللحظة التي بدأت فيها أخبار رمي قوارير الماء على أرضية الملعب تتصدر عناوين الصحف لعدم وجود إنجازات أخرى تذكر.

نعم، قررت اعتزال متابعة الكرة السعودية، إلا أن الوطنية كثيرا ما أرغمتني على العدول عن هذا القرار، فأعود لأتابع مجددا ولا جديد، كلما عدت للمتابعة وجدت واقع الكرة السعودية ما يزال غير محفِز على المتابعة، شللية ومجاملات وتخبطات، تعصب إعلامي، إعلام رياضي سلبي، رؤساء أندية ما يزال بعضهم يعتقد أن الكثير من المال يكفي لعلاج كل المشاكل، أندية كبيرة تعيش على إحسان أعضاء الشرف والصغيرة منها على باب الله، محللون رياضيون من كل حدب ينسلون.. أسأل نفسي وسط هذا الواقع المرير: كيف بالله ستعود حلاوة تشجيع الكرة السعودية؟!

إن الشباب السعودي يلعبون كرة القدم تحت الكباري، على الإسفلت، حفاة في عز الظهيرة، يلعبون بحماس في مواجهة خطر السيارات العابرة، يضعون الأحذية مكان المرمى، ويرسمون بما بقي منها حدودا للملعب، إنه شغف وهوس بالكرة قلَّ أن يوجد له نظير في دول العالم، حواري لا تهدأ على مدار اليوم وطيلة العام، بطولات تقام في رمضان، وفي الصيف، وبين البطولة والبطولة هنالك بطولة تقام، عشق الكرة يجري في دماء الشباب السعودي، والموسف أن يُقابل هذا الجمهور بمثل هذا المستوى الكروي.

هذا الجمهور يحضر بالآلاف لمشاهدة مباراة في إحدى الحواري، وحين تقام مباراة رسمية في ملعب بإمكانيات أفضل لا يحضر إلا بالمئات وربما العشرات! إنها ثقة مفقودة يصحبها ألم وإحباط، صحيح هنالك سوء خدمات في الملاعب، إلا أن هذا ليس بالسبب الرئيس في العزوف عن الحضور.

إن السبب هو غياب الثقة نظير تردي المستوى وغياب النتائج والهبوط في التصنيف العالمي، هذا الهبوط الذي ـ ومنذ أن بدأ ـ وهو مستمر إلى أردأ.

ما نزع هذه الثقة هو هذه الحالة من الفوضى التي تعيشها الكرة السعودية، فوضى ليس لها مثيل، تغير المدربون، تغيرت الإدارات، تغير اللاعبون، وما يزال الفشل والتخبط يملآن الأجواء، تغير كل شيء إلا الثقافة بقيت كما هي، ثقافة تتطاير خلالها تصريحات مسؤولي الأندية بين بعضهم البعض كالحجارة، فتصيب اللاعبين والجمهور، ثقافة فيها يتبرع البعض من أعضاء الشرف للأندية من أجل الدعاية لمكاتب العقار ومعارض السيارات التي يمتلكونها، ثقافة تعشش فيها أفكار الدسائس والمؤامرات، ثقافةٌ كثيرون فيها يبحثون عن تحقيق نتيجة وقتية؛ حتى تسجل لصالح إدارة فلان وعلان وليذهب المستقبل والتخطيط الاستراتيجي غير مأسوف عليه.

ما الحل؟ كيف تعود الكرة السعودية إلى المسار الصحيح؟ من يعيد للكرة السعودية هيبتها؟ ما الذي سيعيد للمشجع شغفه بالتشجيع؟ من سيداوي هذا الجرح الغائر بين الجمهور والمنتخب؟ من سيعيد ثقة الجمهور في الكرة السعودية؟.

هل الحل في الخصخصة؟، أم في الاحتراف الخارجي؟، أم في الأكاديميات؟، أم في التوقف عن نفخ اللاعبين بكل هذه الملايين؟، هل يجب أن يبدأ الحل في البحث عن لعبة أخرى لنلتف حولها، "الكريكت" مثلا؟!، لا أدرى.

لن أنشغل بالبحث عن الحل، أو عمن يمتلك الحل، فمتعة مشاهدة كأس العالم في البرازيل أهم وأولى الآن، هذا المونديال الذي شاهدت خلاله مباراة "ألمانيا والبرتغال"، فلم تشدني الأهداف الأربعة، ولا الإحباط الذي بدا واضحا على ملامح "رونالدو"، إنما شدني في المباراة خبر أورده المعلق وهو يستعرض نتائج "ألمانيا" خلال تاريخها المونديالي، تحديدا حين قال: إن أعلى نتيجة حققتها "ألمانيا" في تاريخ مشاركاتها هو فوزها على السعودية بثمانية أهداف.

تذكرت على الفور أن تلك هي اللحظة التي قررت فيها اعتزال متابعة الكرة السعودية، تجنبا لأمراض الضغط والسكر والقولون، نعم لقد كان قرارا انفعاليا عاطفيا، كان من الممكن العدول عنه مع الوقت، إلا أن الكرة السعودية ـ ومنذ تلك المباراة ـ وهي تأبى مداواة الجراح، "ثمانية النكبة" كانت بمثابة صعقة كهربائية تعرض لها الجمهور، ومنذ تلك النكبة والجمهور ما يزال يتعرض للصعق الكهربائي حتى اليوم، ويبدو أن "الاتحاد السعودي" "استحلى الشغلة"، وبات يمتلك خبراء في الصعق الكهربائي، وفي رأيي أن الكرة السعودية باتحادها وإدارات أنديتها في حاجة إلى صدمة كهربائية؛ لإنعاش هذا الكيان، وبث الحياة فيه من جديد.