كان المساء يقترب من وداع نصفه الأول وأنا أستقبل الأضواء الخافتة لمدينة بولدر/ كولورادو وهي تتراقص أمامي تحت أقدام جبال الروكي الشهيرة. كانت نفسي تختلج بكل ما هو مضطرب متناقض عن قراري بالعودة إليها – هائماً – وحدها، حتى وهي تسلب كل قواي المنهكة بهذه الرحلة الطويلة جداً من جبل أبها إلى – الروكي – ومن نهران إلى قمة (tahle mesa)، هل عدت إلى بولدر لأسترجع أيام العذاب والفقر وفصولها الدراسية المصبوغة في عيوني بلون الرماد؟ أم هل أنا عائد لأيام الشعر الأسود إلى ثلوجها البيضاء وإلى "ألبوم" الصور الكثيفة في مدينة اكتشفت فيها لأول مرة في حياتي أن ما بداخل جمجمتي لم يكن هندسة فراغية؟
كانت أمامي سويعات قصيرة لأعود إلى أنوار صباح افتقدته لأكثر من 20 سنة، كنت "أتكئ" على ظلمة الغسق وانبلاج الفجر كي أتلمس طريقي القديم ذاته، الذي قطعته من قبل ألف مرة إلى زوايا الجامعة وفصولها ومكتباتها وأنديتها ومسارحها المختلفة. وقفت طووويلاً على الجسر الخشبي، فوق النهر الذي كنت أعرفه من قبل... قطرة... بعد... قطرة. كدت أشك أن لون الماء لم يعد ذلك الأبيض الذي اختزنته في ذاكرتي، لولا أنني عرفت أن دموعي الغزيرة هي من صنعت أحداقي بلون "الرماد"، كم هي المرات التي عبرت فيها هذا الطريق، ووقفت فيها فوق ذلك الجسر ضاحكاً مع أصدقاء الذكريات، وها أنذا اليوم أقف عليه باكياً ومودعاً آخر رحلة. صرت أكره الأماكن لأنها تتنكر للأزمنة، وأكره الجغرافيا لأنها تدير ظهرها للتاريخ. كنت على الجسر مثل "تالي الليل" الذي يسحب "شمس الضحى" بخيط العنكبوت، كانت الشمس ترسل أول خيوطها وأنا الواقف تماماً أمام هذا العنوان "315 Arapahoe Avenue". كانت أول شقة حقيقية سكنتها في حياتي وستظل حتى "اللحد" آخر بيت حقيقي شعرت فيه بالاستقلال: كنت أرتجف أمام العنوان مثل عصفور كهل لم يبق من جناحيه سوى العظم، وكنت بالعمد أستمع لعبادي في "بنت الضحى" التي سمعتها من قبل بالداخل ألف مرة. كنت أبكي وأنا أغير كلمات الأغنية: "شمس الضحى طوفي على تالي الليل... خلي حزين الروح ياجد طريقه".