الزلزال السياسي الذي تشهده المنطقة بسبب ما يحدث في العراق يؤكد ما يذهب له بعض المحللين السياسيين من أن الحلقة الأهم في عقد المنطقة هي العراق، وأن ما يحدث في سورية سيكون انعكاسه الأكبر في العراق وليس لبنان كما كان يخشى البعض وركز عليه الإعلام العربي والعالمي. قد يكون سقوط الموصل (ثاني أكبر المدن العراقية) في يد "الدولة الإسلامية في العراق والشام" "داعش" مفاجأة لكن الوضع العراقي الملتهب على مدى السنتين الماضيتين كان يشير إلى إمكانية حدوث شيء من هذا القبيل، فمعدل التفجيرات الانتحارية ازداد ليصل إلى نفس معدلات فترة ما بين عامي 2006 و2008، كما أن مظاهرات السنة في الأنبار وغيرها من المناطق كانت تشير إلى تفاقم الاحتقان الطائفي. المؤشرات كانت تدل على أن العراق على وشك الانفجار بغض النظر عن الشكل الذي ستؤول إليه الأمور.
خلال الأيام الماضية كتبت مئات التحليلات والتغطيات الإخبارية عما يحدث في العراق وجميعها يطرح المزيد من الأسئلة أكثر مما يوفر من إجابات. سقوط الموصل بهذه السرعة يثير الكثير من علامات التعجب، خاصة في ظل وجود شهادات ميدانية بأن الأوامر صدرت مبكرا للجنود للتخلي عن مواقعهم. الصحفي العراقي مشرق عباس ذكر في مقال له أن الموصل تضم فرقتين عسكريتين قوامهما 25 ألف جندي عدا الوحدات التابعة للشرطة، كما ذكر أن تقارير التصويت الخاص في الانتخابات العراقية (الذي يتم للعسكريين) بالموصل أظهر قيام 78 ألف عنصر أمني وعسكري بالتصويت، فكيف اختفى جميعهم بين ليلة وضحاها أمام قوة من عدة آلاف من مقاتلي داعش؟ من جهة أخرى تظهر شهادة لعصمت رجب – مسؤول فرع الحزب الديموقراطي الكردستاني بالموصل – أن الأجهزة الأمنية كانت على علم مسبق بأن داعش ستقوم بالهجوم على الجانب الأيمن للمدينة، كما ذكر عصمت رجب بصراحة أن رئيس الوزراء نوري المالكي كان يريد إسقاط الموصل في أيدي داعش، الذين ظلوا لمدة 7 أيام على أطراف الموصل دون أن يقوم بخطوة ضدهم.
المالكي يحتفظ بحقيبتي وزارة الدفاع والداخلية إضافة لرئاسة الوزراء ومن ثم فهو المسؤول الأول عن الحالة الأمنية في العراق. وما يلفت النظر هو كيف استطاع الآلاف من مقاتلي داعش عبور الحدود السورية – العراقية والتحرك في أرض فضاء نحو ثاني أكبر مدن العراق دون أن تتنبه الأجهزة الأمنية العراقية لهم، رغم زعم حكومة المالكي عدة مرات أنها تحكم السيطرة على حدودها خاصة مع سورية؟
داعش نفسها كجماعة تثير كثيرا من التساؤلات حول حقيقتها، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني (PYD) في سورية المعروف باسم "وحدات حماية الشعب" (YPG) اتهم نظام بشار الأسد في وقت سابق بالتعاون مع داعش. وفي الوقت الذي كانت فيه القوات الجوية التابعة لنظام بشار الأسد تقوم بقصف حلب بالبراميل المتفجرة كانت داعش تعوث فسادا في مدينة الرقة، ومع ذلك لم يقصفها نظام الأسد بتاتا. من جهة أخرى فإن تحركات داعش وتمددها السريع على رقعة جغرافية واسعة في العراق رغم قدراتهم المحدودة على السيطرة على المدن الكبيرة كما ظهر في سورية يدل على أن تحركهم يأتي بهدف إثارة الذعر أكثر من كونه تحركا استراتيجيا. إن ما يحدث في العراق اليوم يعيد إلى الذاكرة حالة تنظيم القاعدة في اليمن وتحركاته التي اتضح مع الأيام أن نظام علي عبدالله صالح كان في واقع الأمر يستخدمه ويوجهه لأغراضه الخاصة ومصالحه.
إن أي تنظيم إرهابي لا يعمل في فراغ، فهو يحتاج لمعسكرات تدريب وشبكات تجنيد ومصادر تمويل وخطوط إمداد لوجستية؛ فكل المقاتلين الأجانب الذين التحقوا بداعش سواء في سورية أو العراق لم ينبتوا من الأرض إنما وصلوا عن طريق خطوط معينة، وإلا لكانت داعش وجدت على سبيل المثال في جنوب سورية عن طريق الحدود الأردنية. هناك علامات استفهام كثيرة حول الشبكات والخطوط التي تعتمد عليها داعش في وجودها في شمال سورية أو العراق. داعش ليست وليدة اليوم، فهو تنظيم قائم في العراق منذ عام 2004 تزعمه أبو مصعب الزرقاوي، وفي عام 2010 كان العراق ينوي التوجه للأمم المتحدة لتقديم شكوى رسمية ضد النظام السوري بسبب دعمه للإرهاب في العراق، فعناصر القاعدة الذين تغلغلوا في العراق عقب الحرب الأميركية جاؤوا من سورية وبدعم وتنسيق منها كون سورية تخوفت من احتمالية قيام الولايات المتحدة بالهجوم عليها عقب الانتهاء من العراق، وقد ذكر وزير خارجية العراق هوشيار زيباري ذلك في حواره بصحيفة الحياة في نوفمبر الماضي.
ما يحدث اليوم في العراق يخدم نوري المالكي والأطراف الداعمة له. فالمالكي الذي كان يعاني من تضعضع قاعدته، خاصة بين الشيعة، جعل من هذه الأزمة راية يحشد حولها الشيعة وهو ما ظهر من دعوات لحمل السلاح دفاعا عن النفس والمراقد وفتح باب التطوع لذلك مع توفير الدولة السلاح للمتطوعين. وطبقا للمحلل العراقي حيدر الخوئي فإن حكومة المالكي تعتمد بشكل كبير على الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران والتابعة أيديولوجيا لها. المالكي طلب من البرلمان إعلان قانون الطوارئ على خلفية الأحداث وهو ما يعني إطلاق يده بشكل غير مسبوق، من جهة أخرى قامت إيران بإرسال قوة من فيلق القدس لمساعدة القوات العراقية مما يعني عمليا فتح الأراضي العراقية واستباحتها للتحركات العسكرية الإيرانية. ما حدث في الموصل يخدم المالكي في تثبيت نفسه والاعتماد أكثر وأكثر على قاعدة من المتشددين الشيعة، ويخدم إيران، حيث يمنحها ورقة تفاوض كبيرة مع الولايات المتحدة التي تجد نفسها أمام مأزق دعم العراق ومن خلفه إيران من عدمه، ومن ثم فالمساومة الأميركية الإيرانية في المنطقة أصبحت تتضمن العراق بشكل فعلي.
ذكر تقرير لمجموعة الأزمات الدولية في أبريل الماضي بعنوان "العراق: الصفقة الخاسرة في الفلوجة" كيف فاقم المالكي من أزمة العراق بتحويله الجيش "لأداة في يد نظام شيعي طائفي موجه من إيران" – بحسب وصف التقرير - وهو ما دفع سكان الأنبار على سبيل المثال لقبول وجود داعش كرها في نظام المالكي. حيدر الخوئي ذكر أيضا أن أغلب سكان الموصل تركوا المدينة ليس خوفا من داعش بقدر خوفهم من عملية رد القوات العراقية على غرار ما حدث في الأنبار من قيام الطيران العراقي بقصف المدينة بالبراميل المتفجرة. لقد نجح المالكي بسياساته في دفع العراق إلى حافة الحرب الأهلية الطائفية وإلى احتمالات تقسيمه وفتح أبوابه للقوات الإيرانية.
الإيرانيون من طرفهم طالما نظروا للعراق على أنه جائزتهم الكبرى خاصة جنوبه، حيث النفط والنجف الأشرف والظهير الشيعي الذي يستطيعون الادعاء بالدخول لحمايته. تقسيم العراق يصب في مصلحة إيران، وسير الأمور يشير إلى إمكانية حدوث ذلك ما لم يتم تدارك الأمر. الأكراد من طرفهم وعوا حقيقة ما يدور ولذلك سارعوا فور سقوط الموصل لدخول كركوك – المتنازع عليها – بقوات البشمركة، مما يعني عمليا ضمها للإقليم وبذلك رسموا حدودهم تحسبا لتطور الأوضاع.
ما يلفت الانتباه في كل هذا هو استخدام الإعلام العالمي للفظ "مسلحون سنة" (Sunni Militants) لوصف داعش بدلا من "جماعة إرهابية" كما هو مفترض، مما يظهر وكأن السنة جميعهم انعكاس لداعش. هذا الأمر يصب ضمن خطاب ينمو مؤخرا في الغرب بشكل خافت ومتدرج مفاده أن الدول السنية لم تصدر سوى الإرهاب للعالم بينما الدول الشيعية على عكس ذلك، ومن ثم فهي الحليف الذي يفترض أن يكون. هذا الخطاب الذي كرره مسؤولون ومفكرون إيرانيون وغربيون مؤيدون لهم بدأ يعلو مع تعميق التفاهمات الأميركية الإيرانية في المنطقة، وقرب وصولهم لاتفاق قد يعيد رسم المنطقة.
ليس من المفترض أن يكون أساس الرؤية هو دول سنية ودول شيعية، والخطاب الطائفي في المنطقة لم يظهر بهذه الصورة سوى مع حرب العراق عام 2003، ومن ثم فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من المستفيد فعلا في نهاية المطاف من "دعشنة" المنطقة؟