أكتب هذا الأسبوع من واشنطن، حيث يحتد الجدل حول مصير العراق مع التقدم السريع الذي حققه تنظيم "داعش" الأيام الماضية، وانهيار الجيش العراقي أمامه. فكل من الحزبين الرئيسين يلوم الآخر على ما يوصف بـ"إضاعة" أميركا للعراق، أولا لإيران والآن للمجموعات الإرهابية. فالديموقراطيون يلومون الرئيس الجمهوري جورج بوش على غزو العراق، وما اتخذه من إجراءات متسرعة خلال الاحتلال، أما الجمهوريون فيلومون الرئيس الديموقراطي باراك أوباما على الانسحاب دون إبرام اتفاق مع الحكومة العراقية يسمح ببقاء بعض القوات الأميركية فترة أطول.

ففي يوم الجمعة 13 يونيو قال السناتور الجمهوري جون ماكين، أحد أبرز نقاد سياسة أوباما في المنطقة، إن ما حدث هذا الأسبوع كان من الممكن تفاديه لولا فشل الإدارة الأميركية في إدارة الأزمة، وطالب الرئيسَ بعزل كامل فريقه المسؤول عن الأمن القومي.

وقال "دوغ فيث" الجمهوري ووكيل وزارة الدفاع في عهد بوش، إن ما حدث "درس لباراك أوباما، ولكنه درس مكلف على حساب الشعبين السوري والعراقي، والمصالح الأميركية. فالرئيس بانسحابه السريع من العراق كان يهمه تحقيق مكاسب سياسية "انتخابية" فقط، ولم يأخذ مأخذ الجد الأخطار المرتبطة بذلك".

وفي اليوم نفسه، تحدث أوباما لوسائل الإعلام، مظهرا رفضه لجر أميركا مرة أخرى إلى العراق، ففي حين أشار إلى إمكانية القيام بنوع من الرد العسكري، رفض فكرة إرسال قوات على الأرض، وجعل أي عمل عسكري أميركي مشروطا باتخاذ الحكومة العراقية خطوات ملموسة لتوحيد البلد، قائلا: إن أميركا لا ترغب في أن تكون مرة أخرى طرفا في وضع "نتمكن فيه من تهدئة الأمور موقتا ما دمنا موجودين، ولكن حالما نغادر يبدأ العراقيون في التصرف بطريقة لا تخدم مصالح بلادهم على المدى البعيد"، وهو بذلك يشير إلى إخلال المالكي بوعوده التي قطعها للأميركيين في السابق، وهو أمر أكده "توم دونيلون" مستشار الرئيس السابق للأمن القومي، يوم الأحد 15 يونيو، حين قال: إن المالكي مسؤول مسؤولية "كاملة" عن الوضع؛ بسبب سياساته الإقصائية ونقضه المتكرر لوعوده.

ويبدو السياسيون والخبراء متفقون على شيء واحد، وهو مسؤولية رئيس الوزراء العراقي عن الفوضى التي تعم البلد، وسمحت لمجموعات مثل "داعش" من بسط نفوذها. ولخص "نيكولاس كرنيستوف" هذا التوافق في "نيويورك تايمز" يوم الجمعة على النحو التالي: "إن تدهور الوضع في العراق ليس غلطة الرئيس أوباما، ولا الجمهوريين، وإن كان كلاهما يتحمل بعض المسؤولية في ذلك. فالمسؤول الرئيس عنه هو رئيس الوزراء العراقي نوري كمال المالكي".

وتبدو واشنطن متفقة على دور السياسة الأميركية المترددة في سورية في نجاح "داعش" في أخذ زمام المبادرة، في سورية أولا ثم في العراق. إذ عزز الفشل في توفير الدعم الكافي لقوى المعارضة السورية المعتدلة، من قدرة المجموعات المتطرفة على تجنيد الأتباع، فترك الشباب المجموعات المعتدلة التي تفتقر إلى السلاح والمال إلى المجموعات المتطرفة مثل التي تملك المال والسلاح والحماسة للقتال. وتمكن "داعش" على وجه الخصوص من بسط نفوذه في شمال سورية وشرقها، على الحدود مع العراق، وساعده النجاحُ في سورية على تعزيز نفوذه في العراق، مستفيدا من السخط الشعبي على سياسات المالكي.

ومع أن "داعش" كان موجودا في الفلوجة والأنبار وغيرهما، إلا أن هجمات الأسبوع الماضي بدأت من مواقعها على الحدود السورية.

ولا شك أن نجاح "داعش" المحدودة العدد والعتاد في كسر شوكة الجيش العراقي، ولو موقتا، مؤشر على وجود مشكلة سياسية أعمق. فسياسات المالكي الإقصائية، في السياسة والجيش، والقمع الوحشي للاحتجاجات السلمية في المناطق السنية، أضعفت الولاء لحكومة بغداد، ولذلك لم تكن هناك إرادة قتالية لمواجهة داعش.

فمن المؤكد مثلا أن ثمة علاقة مباشرة بين المذبحة التي ارتكبها الجيش في حق المتظاهرين السلميين في "الحويجة" في أبريل 2013 وسهولة دخول "داعش" إليها يوم الثلاثاء الماضي 10 يونيو.

وأوضح توماس فريدمان في "نيويورك تايمز" يوم السبت 14 يونيو أسباب سخط واشنطن بقوله: "منذ اليوم الأول، استغل المالكي منصبه لتعيين الشيعة في المناصب الأمنية الرئيسة، وتوجيه الموارد المالية إلى مناطقهم، وإقصاء السياسيين والجنرالات السُّنّة. وفوق أنه رئيس للوزراء، عين المالكي نفسه وزيرا للدفاع ووزيرا للداخلية ومستشارا للأمن القومي، وسيطر أتباعه على البنك المركزي ووزارة المالية". ويختم فريدمان بقوله: "كان عند المالكي خياران، إما أن يكون طائفيا أو وطنيا، ولكنه اختار الطائفية. ولذلك فإننا لا ندين له بأي شيء".

وأُحبط الأميركيون حين رأوا كيف تحول الجيش الذي دربوه وزودوه بالعتاد، وكانوا يأملون أن يوحد العراق ويهزم الإرهاب، إلى ميليشيا طائفية متسلطة، ورأوا فشله في الفلوجة والأنبار وكركوك، وصعقوا حين رأوا وحداته تنهار أمام مجموعة صغيرة مثل "داعش".

وقد تأخرت الإدارة الأميركية في إدراك الطبيعة الطائفية لحكم المالكي، وكنت أشرت في مقال سابق في الوطن "نوري المالكي والتأجيج الطائفي في العراق، 5 نوفمبر 2013" إلى عدم إصغائها للتحذيرات المتعددة، من الخبراء والكونجرس، عن دور سياساته الإقصائية في إذكاء نيران الطائفية والحرب الأهلية، ولكن يظهر أن الأحداث الأخيرة أقنعت الحكومة الأميركية أخيرا بهذا الخطر.

ومن مفارقات الوضع الحالي التحالف غير المعلن بين "داعش" والأكراد "وهم أقوى حليف لواشنطن"، إذ احتلت قوات "البشمركة" خلال الأيام الماضية، بتغاضٍ من داعش، كركوك ومناطق واسعة أخرى مستغلة انسحاب الجيش منها.

ومن حسن حظ الحكومة الأميركية، أنها ما تزال تتمتع بنفوذ ملموس في العراق، ويمكنها إقناع المالكي بعدم الإصرار على ولاية ثالثة كرئيس للوزراء، وأن تقنع الساسة الآخرين بتشكيل حكومة وحدة وطنية، تستطيع أن تُخرج العراق من الهاوية التي أوقعها المالكي و"داعش" في أعماقها. وبحكم صداقتها الوثيقة مع الأكراد، تستطيع إقناعهم بالتخلي عن المناطق التي احتلوها الأيام الماضية، لإظهار حسن النية، وتشجيع الأطراف الأخرى على الدخول في العملية السياسية.