"أبي العزيز"..

لقد أصبحت رجلا.. تصور! رغم كل ما لم تفعله لي.. رغم بعدك، وقسوتك، وإهمالك لنا.. أصبحت رجلا، والفضل كله يعود لله سبحانه تعالى، لأنه ألهمني البصيرة وأنعم عليّ بالقوة والإرادة لكي أستمر في طريق أنت اخترت.. أن تهجره!

شكرا أبي لأنك كرهت أمي، وعاملتها على أنها مجرد قطعة من أثاث البيت، بل إنك اهتممت بأثاث البيت أكثر منها.. كم مرة حطمنا خلال لعبنا تحفة أو كسرنا صحنا أو كأسا فتركت علامات غضبك على أجسادنا ألوانا وأشكالا!. وحين كانت تمرض أمي كنت تدير ظهرك وتخرج دون أن تسأل أو تهتم! كم مرة جرحت أمي وتعديت عليها جسديا ونفسيا، وتركتها منكسرة أمامنا تلملم كرامتها المنتهكة وذاتها المشتة!.. وإن اقتربنا منها لمواساتها رمقتنا بنظرات يجمد معها الدم في عروقنا! لبست ثوب التحضر والمدنية المزيفة واحترمت نساء العالم واحتقرت أمي.. حرمتنا وقتك وحبك وحنانك وصرفته في البيت الثاني والثالث والرابع!

شكرا أبي لأنك سمحت لنا بأن نجرب رجولتنا على أخواتنا.. حينها فقط كنت تبتسم وتشجع وتدعم، كم مرة تعدّى إخوتي على حرية أخواتي أو سخروهن لخدمتهم، فكن ينتفضن خوفا ويتحركن داخل جدران المنزل بأجساد خالية من الروح!. رأيت الانهزام... ورأيت القهر.. ورأيت الكراهية في أعينهن، وللأسف حينها لم تُبالِ!

شكرا أبي لأنك فضلت مصاريفك الشخصية على احتياجات الأسرة، وسيارتك، وساعاتك، وعطرك، وسفرياتك، وممتلكاتك التي كنت لا تشبع من جمعها. كانت أهم عندك من طلب يقدمه أحدنا إليك.. لقد زرعت فينا النرجسية وحب الذات، فيا له من درس عظيم عملت بكل ما أوتيت من قوة على تقديمه لنا.. هل كنت تقصد؟ لا أظن.. فإنك لو علمت أنه درس لتغيرت ليس لشيء سوى ألا نتعلم.. فحتى العلم كنت تستكثره علينا!

شكرا أبي على كل الزيارات التي لم تقم بها إلى المدرسة لتسأل عنا.. وعلى كل المرات التي استدعيت ولم تستجب! كنت أشاغب، وأتعارك، وأتعدّى.. وكنت أنت لا تبالي! كم تمنيت أن تأتي وتشاهدني في احتفال.. وأن تشاركني في مباراة رياضية.. كنت أقع ويتمزق جلدي ويختلط دمي بتراب الأرض التي لم تطأها قدماك.. ولكنك كنت منشغلا.. وكنت تعمل.. وكنت تجمع ولا تشبع!

شكرا أبي لأنك لم تشجعنا على القيام بأي شيء.. قراءة، أو رياضة، أو فكر، أو حوار.. شكرا لأنك أقصيتنا عن مجالسك وأصدقائك! شكرا لأنك لم تعلمنا قيمة العمل، ونهيتنا عن التعاطف مع الآخرين.. لأنهم حسب رأيك متسلّقون يريدون وقتك ومالك ومجهودك، وبعد أن تساعدهم سوف يرمونك على أقرب رصيف! شكرا لأنك تسلّقت وتملّقت وكذبت فكنت أفضل مثال لما أردت لنا أن نبتعد عنه!

شكرا أبي لأنك استهزأت بكل إنجاز كنا نقوم به.. شكرا لأنك كنت تكرر علينا بأننا مجرد مجموعة من الفشلة، تربية "حرمة" حسب قولك.. وأننا لن نتمكن من إنهاء الدراسة أو حتى نحلم بدخول بوابة الجامعة! شكرا لتذكيرنا بأننا نشبه كل فصيلة من أنواع الحيوانات.. إلا البشر.. إلا البشر!

أبي العزيز... ليس كل من أسهم في ولادة إنسان يصبح أبا.. فالأبوة اهتمام.. وعطف.. وحب حازم.. الأبوة عدل وتعاطف.. الأبوة مبادئ وقدوة.. الأبوة مشاركة وتواجد.. الأبوة عطاء وتضحية.. الأبوة هي الصوت الذي يدفعك لكي تقف بعد كل مرة تقع فيها.. الأبوة هي القوة الداعمة التي تدفع حين لا يرى أي شخص آخر فيك ما يشجع على الدعم.. الأبوة هوية وأرض وعرض.. الأبوة إيمان وثقة وتوكل.. الأبوة هي الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية وتقبل التبعات...الأبوة في كلمة "رجولة".. وأنت يا عزيزي لم تكن أيّا مما ذكرت!

ورغم كل ما فعلته بنا وما لم تفعله لنا أصبحت رجلا.. نعم أصبحت رجلا، لأنني في لحظة ما.. وأنا في أشد لحظات يأسي وألمي قررت.. ألا أكون أنت!

عذرا عزيزي القارئ.. أردت أن أستخدم عنصر "دهشة اللقاء"؛ التعامل مع أمر غير متوقع لأول مرة، من خلال عرض ما لا يجب أن يكون، لأصل بكم إلى ما يجب أن يكون.. وكلي أمل أن تصل الرسالة، هذا لا يعني أنه ليس هنالك آباء عظماء يضحون كل يوم من أجل أبنائهم، منهم من لديه القليل من الخصال الطيبة، ومنهم من لديه الكثير منها.. المهم هنا أن ندرك أن منا من لديه ذكريات طفولة رائعة، بينما هنالك من لديه ذكريات مؤلمة رسمت جروحا عميقة في الروح قبل الجسد، ولكن هذا لا يعني أن نكون نحن آباء ظلمة مستبدين مهملين.. فمهما كانت قسوة تجاربنا فإنه يمكننا أن نخلق ذكريات بناءة مثمرة لأبنائنا.. لأن أطفالنا يستحقون الأفضل.. الأفضل من المحبة والعطاء، ومن الاهتمام والحزم، ومن اللين والتفهم حسب الموقف وحسب الحاجة.. يجب ألا نترك نتوءات الماضي تؤثر على تربيتنا لأبنائنا.. لنبحث عن لحظات السعادة والمعرفة والدعم والمحبة.. لنحصد منها ونزرع في حياة فلذات أكبادنا.. وإن لم نجد، فلنتخلّص من الذكريات السلبية .. لنرمِها جانبا ونبدأ ببناء ذكريات جميلة مع أبنائنا...قد لا نتمكن من أن نكون مثاليين، ولكننا بشر نستطيع أن نتكيف ونبحث ونتعلم.. فلا مستحيل إلا ما نقرره نحن أن يكون مستحيلا... أيها الآباء؛ في التربية لا يوجد مستحيل.. توجد طرق وتوجد إرادة، فإن لم تكن أبا ناجحا.. لم يفت الأوان.. قرّر وأبدأ الآن.