لو أردت الاسترسال، واستيفاء ما ذكرته في مقالي السابق: "النزوات الكبرى من جهيمان إلى جورج بوش"، لقلت إن ما شهدته المنطقة خلال العقود الماضية من توالد التنظيمات المتطرفة، وما أفرزته من تفشّ للطائفية، وما أنتجه هذا الفرز من إيغار للنفوس واستنبات للشك وفقد للثقة بين أبناء الوطن الواحد، هو وضع مازال قائماً، بل ولا يزال يتنامى من خلال الاصطفاف الواضح في الوضع المأساوي في سورية، وكذلك الوضع غير المستقر في العراق منذ الغزو الأميركي، وما أعقبه من سقوط الرجل القوي "صدام"، وما نتج عن ذلك من تدخل إيراني واستلاب للحكومة الدمية هناك، وهذه الأوضاع المرتعشة في العراق ومن ثم سورية، وما أبانته في بغداد من طائفية مقيتة، وسيطرة لطيف واحد في بلد متعدد الأعراق والمذاهب، هو الذي هيأ الأرضية المناسبة لنشأة تنظيم دولة العراق والشام "داعش"، وهو الذي يتسيد ساحة الأحداث هذه الأيام من خلال السيطرة على محافظة الموصل.

الواقع أن ما حدث هناك يثير الكثير من علامات الشك والريبة.

فهناك من يرى أن ما حدث إنما جاء بدفع من الثوار وأبناء العشائر، وأن ما ينسب لداعش إنما هو تسويغ من حكومة المالكي لضرب الثوار الذين تمردوا على الظلم وعلى الطائفية الواضحة في الحكومة المركزية.

في حين يقال إن تنظيم "داعش" إنما هو صنيعة إيرانية توظفها طهران لمصالحها في سورية، من خلال تحييد أميركا وحلفائها في أحداث سورية، وإطلاق يد بشار لكي لا تصل هذه التنظيمات المتطرفة إلى أهدافها.

فيما يرى آخرون أن "داعش" هم مجموعة تؤمن حقاً بالخلافة الإسلامية، وتهدف إلى قيام دولة تحقق رسالتها الطوباوية، وأن إيران ونظام بشار يفتحان المجال لهذا التنظيم ليتصادم مع الثوار ومع الجيش الحر في صراعهم على بعض المناطق التي هي خارج قبضة نظام بشار، بحيث يضعف هذا التنازع شكيمة الثوار، وينزع مخالبهم، بل ويقوي حجة بشار وروسيا وغيرهما من الدول أو التنظيمات الداعمة له.

والأمر يلقى الصدى وردة الفعل نفسيهما، بعد أحداث الموصل في العراق، فها هو وزير الدفاع الأميركي يوجه حاملة الطائرات بالتوجه إلى الخليج العربي تحسباً لأي تطور في العراق، بهدف التعامل مع كل ما يهدد الأمن والمصالح الأميركية في المنطقة.

انظر كيف أن أميركا، وفي ظرف أيام معدودة من واقعة الموصل، تعتزم التدخل بحجة إعانة العراق ودعم حكومة المالكي، وهذا عائد لخوف أميركا على مصالحها (النفطية) في المنطقة.

وفي هذا تأكيد على أن عقيدة النفعية والحفاظ على المصالح هي الأهم، وهي الحافز الذي يسبب الصراعات بين الدول.

ثم انظر أيضاً إلى أميركا، حين لم تجد لها في سورية أي مصلحة، فإنها نأت عن التدخل هناك خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى مع علمها بوقوع بشار في المحظور الدولي وهو استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، ومع ذلك لم تحرك ساكناً سوى ذر الرماد في العيون من خلال بعض التصريحات الاستهلاكية.

وانظر إلى روسيا التي تخاف على مصالحها في سورية، مما دفعها إلى الوقوف عنوة وبشكل قوي في صف النظام السوري ودعمه ومنعه من السقوط كلما شارف على ذلك، ولم تكترث روسيا لكل اللوم الإنساني والأخلاقي الذي طال سمعتها منذ أن انطلقت شرارة الثورة هناك؛ لأن المصالح الذاتية مقدمة على المآخذ والمثاليات.

وهكذا ستبقى منطقتنا عرضة لهذه الارتجاجات والتحولات التراجيدية، وستبقى منطقة لصراع المصالح بين الكبار، لكن عودة الأمور في مصر إلى نصابها بعد انتخاب السيسي، ستشكل عودة للحس القومي، والأكيد أن هذا التحالف: السعودي، الإماراتي، المصري، سيعزز من قوة الورقة العربية في التفاوض لاحقاً على نحو سيجعل إيران المتمردة تستكين وتحد من طموحاتها وتوسعاتها التي توزعت في العديد من المفاصل والخواصر العربية الضعيفة في لبنان وسورية واليمن والعراق.

لاشك أن استقرار مصر سيخلط الأوراق مستقبلاً في المنطقة، وسيكون مدعاة لتهميش التنظيمات المتطرفة التي سيتشتت أفرادها في الأصقاع، وسيشكلون قلقاً وصداعاً للأقطار التي يعودون إليها، لكن الزمن كفيل بتذويب الطوباوية.