يالها من لحظة وجودية قاسية، تلك التي يباغتك فيها نبأ الفجيعة بفقد عزيزٍ، وحين تصل للمستشفى لا ترى المحيطين بالجثمان بعدما استرد الله وديعته، لتبدو كأنك قادم من أحد "الثقوب السوداء" بين المجرات، فيتداخل المكان في الزمان، والوجود في العدم، ورغم مشهد النساء المتشحات بالسواد لكنك تصر بصلابة على إلقاء "النظرة الأخيرة" على جثمان صديق وزميل العمر، حينها لا ترى سوى اللون الأبيض، فتباغت الذاكرة كلمات "الجنوبي" أمل دنقل: "لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن، قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ، كوبُ اللَّبن، كلُّ هذا يُشيع بقَلْبي الوَهَن".

صباح الجمعة الماضية استيقظت على نبأ وفاة الصديق والزميل عبدالله كمال، وهو لمن يجهله صحفي كبير ومحلل سياسي متميز، لكن اسمه ارتبط بآخر سنوات حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكان رئيسًا لتحرير مجلة وصحيفة "روز اليوسف" ولاعبًا بارزًا بأمانة السياسات التي كان يرأسها جمال مبارك حتى أُقيل عقب 25 يناير.

كنا مختلفين سياسيًّا، لكننا بقينا أصدقاء نتزاور ونتواصل إنسانيًا، ونخوض مناقشات ساخنة، وأشهد أنه كان نبيلاً في خصومته، ليس معي وحدي، بل مع كافة معارضيه حتى أولئك الذين ينتهجون "فحش الخصومة" ظل عفّ اللسان، محتفظًا بمنطقه الهادئ، وفيًا لخياره السياسي، وأذكر أنه عقب التحولات التي شهدتها مصر قال: "انتقلت من موقع الحكم للمعارضة"، وكان ردي: أهلاً بك، فقد فرقتنا السلطة وجمعتنا مواجهة "عصابة الإخوان"، واتفقنا على تسليم "مسألة مبارك" لعهدة التاريخ ليقول كلمته بشأنه، فليس من المروءة الانزلاق لمهاترات اشتعلت ضده حتى من بعض الذين كانوا مقربين ومستفيدين منه.

بعدها كتب عبر شبكات التواصل الاجتماعي: "تختلف أو تتفق معه، تكون ثوريًا رافضًا له أو مؤيدًا لعصره.. تريد لزمنه أن يعود أو لا تريد أن تقرأ اسمه.. تكرهه أو تحبه.. تتمنى تبرئته أو تريد أن تنزل به أقسى الأحكام.. فهمت حقيقته أو لم تزل تجادل بشأنه.. تعتبره زعيمًا وطنيًا، أو ما زلت متأثرًا بحملات الإخوان وبقية خصومه، فإن كل هذا لا يمكن أن يدفعك لإنكار أن حسني مبارك هو نجم الأخبار".

آه يا "عبدالله"، يا آخر العنقود في سلسلة مراراتي بفقد النبلاء واحدًا تلو الآخر، وما أندرهم سواء كانوا متفقين أو مختلفين، فيقيني الراسخ أن الخلاف من سنن الله في خلقه، فقد حسمها في محكم آياته: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (هود 118) وليس بعد الذكر الحكيم قول.

تزاحمت بمخيلتي مئات الصور عن لقائنا الأول عام 1987 حينها كنت ضابط شرطة، لكني مُتّيم بالصحافة فكنت أنشر مقالات مع جوقة من الصحفيين الذين صاروا نجوم المرحلة كإبراهيم عيسى، ووائل الإبراشي، وعادل حمودة، وحمدي رزق وغيرهم، ولا أنسى تعليقاته المقتضبة المُعبرة باختزال عن أحوال البلاد والعباد، وأشهد أمام الله تعالى قبل الناس، بأنني لم أضبطه يومًا متلبسًا بالاستهانة بأوجاع المظلومين والمهمشين، فقد كان يفيض رقّة وإنسانية كأنه قادم من "برج الحكمة"، وظل وفيًا لخياره السياسي مدافعًا عنه فلم يُبدل مواقفه بعد التحولات الدرامية بمصر، ولم يتلون كغيره من الباحثين عن بطولات وهمية "بأثر رجعي" متكئين على ذاكرة الشعوب المثقوبة.

اهتزت مصر بزلزالي 25 يناير و30 يونيو وما ترتب عليهما من توابع، وحاصرت الجميع تحديات جسام، ولم يعد للقابض على ضميره ملاذ سوى الانحياز الحاسم للدولة الوطنية، حتى كانت آخر لقاءاتنا عقب إعلان فوز السيسي بالرئاسة، حينها قال والسعادة تغمره: الآن يمكنني الموت مطمئنًا بعدما عرفت مصر طريقها الصحيح، وبالطبع كنا متفقين تمامًا، وقلت له: "ما زلنا بحاجة لخدماتك، فالطريق لم يزل طويلاً، وهناك زهرتان تُدعيان (زينة وعالية) ما زالتا طفلتين تنتظران أبًا يزفهما لمن يستحقهما، لكنه كان كمن يستشعر النهاية علق قائلاً: "الأعمار بيد الله"، فدعوت له بالصحة والعمر الطويل لعلمي بأنه مريض بالقلب، وأجرى جراحة حرجة بمركز الطبيب الشهير مجدي يعقوب.

الآن عقب وفاته راح بعض أتباع الإخوان ومن اصطلح على تسميتهم "نشطاء السبوبة" يتحدثون بشماتة لا تليق بحرمة الموت وجلاله، لكن بعيدًا عمن فقدوا أبسط معاني الإنسانية، فقد اتفق خصومه ومؤيدوه على احترامه لأنه جدير بهذا، أما أنا فقد أعيتني المرارات لتتابع رحيل الأصدقاء والأحبة كسقوط أزهار العمر، والأسوأ هو اعتيادها، بينما لم ينفض عزاء أستاذ جيلي سعد هجرس وغيره.

يوجعني أنني مضطر للاعتياد على غيابهم، وحين أزور أماكن كانت تجمعنا، ولا أجدهم رغم أن أنفاسهم حاضرة تلفح وجداني، وضحكاتهم عالقة على الجدران التي تحمل بصماتهم ورائحتهم، أبكي بصمت، وأجتهد ألا يكتشف أحد ما يجول بخاطري، فليس بوسعنا سوى التسليم بإرادة الله.

وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.