نوري محمّد
قد يكون وراء صعوبة النّحو العربيّ الدّخول إلى مادّة القواعد بلا تمهيد، ولو نظرنا في مراجع الموادّ الأخرى لوجدنا مدخلاً لكلّ علم من العلوم، وبعض كتب النّحو قد يمهّد لدروسه بالحديث عن المدارس النّحويّة، ولاسيّما مدرستي البصرة والكوفة، ويذكر خصائص كلّ مدرسة وأعلامها... وفي نظري أنّ هذا التّمهيد لا طائل مِن ورائه. علينا أنْ نقدّمَ لطلابنا تمهيداً مناسباً نعرّفهم من خلاله بخصائص لغتنا، فنقول لهم: إنّ العربيّ لا ينطق بحرف، لأنّه وحده لا فائدة منه، وكذلك لا يتكلّم بمفرد، وإنّما يتكلّم بجملة، لأنّها هي الكلام المفيد للمُتلقّي، فالمخاطب لا يستفيد أيّ فائدة من النّطق بالحرف، مثل: عن، وإنّ، ولا يستفيد من النّطق بالمفرد غير المركّب مع غيره من الكلمات، مثل: الطّريق، ويصومُ، وإنّما يستفيد من الجملة، وتنضمّ الجملة إلى جملة أخرى إلى أنْ تكتملَ الفِقرة، وتنضمّ الفِقرة إلى فِقرة أخرى، وهكذا حتّى ينتهيَ المتكلّم من كلامه، ويصبح لدينا خطبة أو مقالة... فاللبنة الأولى في لغتنا هي الجملة، وهذه الجملة من الكلام تتّسم بالمرونة، فقد يحدث فيها نوعٌ من التّقديم والتّأخير، ونضرب له الأمثلة على ذلك، نحو: "جاء أبي"، أو "أبي جاء". "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ"، أي: ابتلى الربُّ إبراهيمَ بكلمات. وقد نقدّم الجملة كلّها على غيرها نحو: "يا سعيد، أطِعْ أبويك"، أو "أطِعْ أبويك، يا سعيد". ويكثر ذلك في الشّعر لأنّ الشّاعر مقيّد بالوزن والقافية كقول أحمد شوقي:
سلامٌ من صَبا بَرَدَى أرقُّ
ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دِمَشْقُ
والأصل: يا دمشق، سلام أرقُّ من صَبا بردى، ودمع لا يكفكف. وقد تحذف بعض أجزاء الجملة، فإذا رأيتَ سيّارة مسرعة وفي الطّريق طفلٌ يلهو ويلعب، فإنّ المقام لا يسمح لك أنْ تكلّمه بإسهاب، وما عليك إلا أنْ تقولَ له: السيّارةَ، أي: احذر السيّارةَ، إذاً هذه جملة لا مفرد كما قد يتوهّم الطّالب، لأنّنا حذفنا فعل الأمر وفاعله الضّمير المستتر لضيق الوقت، ومن قبيل الحذف من الجملة قولنا للعائد من الحجّ: حجّاً مبروراً. وقولنا لمن أدّى خدمة: شكراً، أي: حججتَ حجّاً مبروراً. وأشكركَ شكراً... ويُستحسن أنْ نطلعَه على نظريّة العامل التي تعرّضت للنّقد منذ القديم، وإنّ الهروب من الحديث عن العامل والمعمول في الكتاب المدرسيّ لا يُعَدّ ضَرْباً من التّسهيل والتّيسير.
إنّ العامل النّحويّ يختلف عن العوامل في الأمور الحسّيّة، فالفعل الذي يقتضي فاعلاً ومفعولاً ليس كالسّكّين التي تقطع اللحم، إنّه لا يكفي أنْ تقولَ: "قرأ" حتّى تُكْمِل، لأنّ هذا الفعل يقتضي قارئاً ومقروءاً، ولذلك عليكَ أنْ تقولَ مثلاً: "قرأ الطّالبُ آيةً"، فالقارئ هو "الطّالب"، والمقروء هو "الآية"... فالضّمّة في "الطّالب" عَلَم على الإسناد، والفتحة في "الآية" عَلَم على غيره. إنّ الجملة العربيّة تُنْشِئ علاقات معنويّة بين المفردات تختلف عن العلاقة بين السّكّين واللحم.
إنّ الهجوم على نظريّة العامل، والدّعوة إلى حذف بعض الأبواب من النّحو، واتّهام اللغة بالصّعوبة والتّعقيد، والشّكوى من علومها، لن تزيدنا هذه الأمور إلا بُعداً عن لغتنا. علينا أنْ نبذلَ جهداً كبيراً في إبراز خصائص هذه اللغة الجميلة لأبنائنا، وتذكّروا أنّ الدّول الأجنبيّة تحرص على تعليم لغاتها لأبنائنا، وترسل اللجان لتقييم المقرّرات الخاصّة بلغاتها في بلادنا. علينا أنْ نُنشئَ جيلاً يتقن لغته قراءةً وكتابةً وتعبيراً، إنّها لغة الكتاب المبين، وصلة الوصل بيننا وبين تراثنا القديم.