قلة؛ أولئك الذين يمتلكون الشجاعة للكتابة عن حيواتهم بتجرد، حيث إن معظم الذين يفعلون ذلك؛ يقدمون وجباتهم الحرفية على طبق الاعتزاز بالذات، سواء أرادوا ذلك أم لا، والغالب أنهم يتقصدون الظهور للملأ كملائكة، ويخرجون أحداثهم كبطولات، ويقدمون أعمارهم كتواريخ عظيمة يجب أن يخلدها المؤرخون!

عبدالرحمن عايل، صاحب رواية: "قبل أن تخون الذاكرة"، والعائد من الموت، عبر أكثر من فرصة، قرر أن يكون من أولئك القلة، بعد أن رصد تحولاته في الحياة بشفافية، وراح ينثر تفاصيل كل مرحلة، بكل ما احتوت من مآس و"عراكات" وأفكار، وملذات وقتية، وبطولات آنية، ورفاق، وصراعات التحول والتنقل بين ردهات الأفكار والعمر، والسفر، والمشفى، والسجن، ومحاولاته الجادة للموت، تارة باسم الإسلام، وتارات عبر محطات أخرى.. جرب أن يكون كل شيء، قبل أن يكون هو، وارتدى أقنعة متغيرة كثيرة، تتلون بحسب الفكرة والفترة الزمنية التي ينتمي إليها، وانحاز لكل زوايا الحياة المتباينة، بكى كثيرا لأنه فشل في أن يموت، وفرح كثيرا لأنه لم يمت، وحاول الهروب أكثر؛ في المساحة الموصلة بين دموعه وضحكاته..

نثر كل شيء، ليريح ضمير ذاكرته قبل أن تغيب، بعد أن غاب عدد ممن رافقوه لصنع تلك الذكريات، زف بعضهم للموت، بعد أن وعدهم باللحاق، وفشل في أن يوفي، وغيّب آخرين، بعد أن أملهم بالفرح، ثم سقط من جديد، وعاد ليكتب بدعامات قلب أمه الأربع، التي حزنت من أجله كثيرا: "يا الله أنعمت علي بطفل، ثم أخذته.. يا الله أنعمت علي بصديق قريب، ثم أخذته.. يا الله أنعمت علي بأمنية في سبيلك ورفاق كثر، ثم أخذتهم.. يا الله أنعمت علي بزوجة، ثم أخذتها.. يا الله أنعمت علي بحبيبة، ثم أخذتها.. يا الله أنعمت علي بصحتي، ثم أخذتها.. يا الله أنعمت علي بذاكرتي، فأرجوك خذها". ابحثوا عما كتب، فذلك يستحق العناء.. وأكثر!. والسلام.